محمد روحي الخالدي يرصد أسباب الانقلاب العثماني (خالد بيومي)

 

خالد بيومي

صدر حديثاً عن دار «رؤية» للنشر والتوزيع في القاهرة كتاب «أسباب الانقلاب العثماني… وتركيا الفتاة» لمحمد روحي الخالدي «1864 – 1913» بتحقيق خالد زيادة. ويضم الكتاب مقالات نشرها الخالدي في مجلة «المنار» التي أنشاها الإمام محمد رشيد رضا، والتي أضحت لسان الحركة الإصلاحية الإسلامية. وكان صاحب «المنار» من مؤيدي الانقلاب العثماني الدستوري (24 تموز/ يوليو 1908) الذي أنهى ما عُرف آنذاك بعهد الاستبداد الذي مثله حكم السلطان عبدالحميد الثاني الذي تسلم العرش عام 1867، وأعلن الدستور وسرعان ما علق العمل به، واتهم بالاستبداد وضعف الدولة في عهده الطويل بسبب الحروب والديون وأعلن سياسة الجامعة الإسلامية وحدث الانقلاب الدستوري قرب نهاية عهده، فقد خُلع عن العرش 1909، وتوفي عام 1918. وأثار هذا الانقلاب ردود فعل واسعة في أوساط المثقفين والكتاب والصحافيين، لأن آثاره أصبحت ظاهرة للعيان مثل إطلاق حرية القول والمجاهرة بالرأي، فصدرت عشرات الصحف في كل مدينة من مدن الدولة العثمانية وانبثق «المبعوثان» (الاسم العثماني لمجلس النواب الذي انبثق عن إعلان الدستور عام 1877) الذي سيلتئم في اسطنبول على عجل مفتتحاً بذلك عهد الحريات. وكان انتخاب ممثلين من دمشق وحلب وبغداد نقل عدداً من الشباب المتنور إلى مجلس «المبعوثان» في اسطنبول، وكان صوت هؤلاء العرب الأكثر ارتفاعاً والأشد دفاعاً عن النظام البرلماني، وأبرزهم ضياء الخالدي، مندوب القدس وابن العائلة التي ينتمي إليها روحي الخالدي. وحين أوقف السلطان عبدالحميد العمل بالدستور عام 1878 طلب ترحيل عشرة من النواب إلى بلدانهم من بينهم خمسة من العرب: نافع الجابري، خليل غانم، يوسف وضياء الخالدي وعبدالرحيم بدران.
وإذا كان السلطان عبدالحميد استعان ببعض أبناء العرب الذين ضمهم إلى إدارته وحاشيته، إلا أن المستنيرين منهم انخرطوا في معارضة نظام الاستبداد وتعلقوا بمبادئ الحرية والدستور، وعلى رغم تعلقهم بالدولة العثمانية كانوا يطالبون بدور أكبر للعرب في إدارة شؤون الدولة. من هنا، فإن روحي الخالدي يعبر عن انبعاث الشخصية العربية الثقافية، وكان نشاطه السياسي يعبر عن إيمان عميق بالرابطة العثمانية ولذلك انخرط في جبهة المعارضة التي مثلتها جمعية «تركيا الفتاة»، وحزب «الاتحاد والترقي».
وإذا كانت الأحداث المتسارعة التي أعقبت الانقلاب العثماني أظهرت المشكلات العميقة التي تعانيها الدولة العثمانية، وأن القادة الجدد ما كان بمقدورهم أن يبدلوا المصائر التي تنتظرها الدولة، بل إن سياساتهم وخلافاتهم وصراعاتهم فاقمت من الأزمات وأحدثت انشقاقات بين العرب والترك والأرمن. وكان انخراط قادة الدولة من حزب «الاتحاد والترقي» في أتون الحرب العالمية الأولى، فاقم من حدة الانشقاق بين العرب والترك، فقامت الثورة العربية في عام 1916 معلنة عن انفصال مصير العرب عن الترك، ومؤذنة بتعجيل نهاية الدولة العثمانية وانفراط عقد الخلافة. لكن الانقلاب الدستوري كرّس في حينه مبادئ الدستور والتمثيل السياسي والحرية الفكرية، كما أنه كان فاتحة للأحداث الجسام خلال عقد من الزمن، من انبثاق لتركيا الحديثة إلى بروز العروبة، إلى وقوع المشرق العربي تحت الاستعمار وبروز حركات التحرر والاستقلال.
ويعود الخالدي إلى أصول الدولة العثمانية التركية منتقداً ضمناً جذورها العسكرية وبدائية تقاليدها السياسية والعسكرية، ويتبنى مقولة إن الدولة العثمانية مرت بأطوار عدة: طور العظمة والاتساع، طور التقهقر وتغلب أهل القصور على السياسة والقرار، وطور الإصلاح في عصر التنظيمات، وطور الاستبداد الحميدي الطويل (33 عاماً). وعلى رغم إيمان الخالدي بأن تدخل النساء والمحظيين كان سبباً في ضعف الدولة العثمانية، إلا أنه لا يغفل عنصر الاستبداد وتدخل الدول الأجنبية.
وحين ارتقى السلطان عبدالحميد سدة العرش كان روحي الخالدي فتى في الثانية عشرة من عمره وقد زار اسطنبول للمرة الأولى عام 1880، وكان لا يزال في يفاعته وعاد إليها ليتابع دراسته، والتقى جمال الدين الأفغاني وتوجس بنفسه من أجواء الرقابة والتجسس وسيطرة العاملين في الخدمة السلطانية. وإذا كان الخالدي سلط انتقاداته على الحاشية، إلا أنه حيّد السلطان عبدالحميد الذي كان لا يزال سلطاناً عند صدور الكتاب ولم يخلع عن العرش إلا في آذار (مارس) 1909.
إلا أن الجانب التوثيقي، وهو الجزء الأهم من الكتاب الذي يؤرخ فيه المؤلف ويسرد من خلاله الوقائع التي أدت إلى تأسيس «تركيا الفتاة» والتي لا تعدو كونها تياراً فكرياً وسياسياً يفتقر إلى التنظيم. فجذور «تركيا الفتاة» تعود إلى عصر السلطان عبدالعزيز (1861 – 1876) الذي شهد عهده بروز التيارات المختلفة، من المحافظين إلى الإصلاحيين إلى بروز الأدباء والكتاب الذين كانوا نواة التيار الذي عرف باسم (تركيا الفتاة). كذلك الأمر بالنسبة إلى نشوء «حزب الاتحاد والترقي»، الذي تأسس عام 1890 كجمعية سرية وحزب سياسي قام المنتسبون إليه، خصوصاً الضباط منهم، بالانقلاب الدستوري عام 1908 بفضل التكتم والتحفظ الشديد من جانب أعضائها، وقاموا بقلب أعرق حكومة في الاستبداد وتحويلها إلى حكومة دستورية حرة من دون أن تراق في سبيل ذلك نقطة دم واحدة، ما أثار حيرة البلدان الأوروبية وذعرها نتيجة هذا المصير العجيب الذي ما كان يخطر لها ببال. ولا بد لنا هنا من الإشارة إلى أن المعطيات التي يقدمها حول تأسيس حزب الاتحاد والترقي، كانت الأولى من نوعها من حيث التسلسل التاريخي والدقة في إيراد أسماء الذين كانوا قادة هذا الحزب وأدوارهم فيه، وانتشار خلاياه في صفوف الجيش. ويشير الخالدي إلى أن الحزب لم يكن بمقدوره أن يقوم بالانقلاب لولا حركة الضباط في سالونيك.
وجاء كتاب الخالدي بمثابة إعادة تقويم لتاريخ الدولة العثمانية، مع تركيزه على دور الإصلاحيين من السلطان سليم الثالث (1789 – 1807) وكان أول سلطان عثماني يؤسس برنامجاً إصلاحياً متكاملاً أطلق عليه اسم النظام الجديد، وعُزل عن العرش 1807، وقتل عام 1808. إلى السلطان محمود الثاني (1808 – 1839) والذي يعد أحد أبرز السلاطين المصلحين وخاض الكثير من الحروب ضد روسيا، وفي عهده وقعت حرب اليونان، كما واجه محمد علي باشا والي مصر الذي هزم جيشه وسيطر على بلاد الشام، ومن أبرز الوقائع التي حدثت في عهده القضاء على قوات الإنكشارية (القوات الجديدة) عام 1826، والتي يرجع تأسيسها إلى القرن الخامس عشر، وهي القوات التي حققت للعثمانيين الانتصارات في العهود الأولى، إلا أنها أصبحت عائقاً أمام التحديث. إلى السلطان عبدالمجيد، ابن السلطان محمود الثاني (1823 – 1861) والذي خلف أباه عام 1839، وأعلن (خط شريف كلخانة) الذي نصَّ على إصلاحات تؤرخ لبداية عصر التنظيمات في الدولة العثمانية.
ولا يفوت الخالدي أن ينوه بأدوار الإداريين الذين اكتسبوا الثقافة الحديثة وتسلموا أرفع المناصب، أمثال عالي باشا وفؤاد باشا، بخاصة مدحت باشا. وحقيقة الأمر أن التنظيمات التي كانت نتاج هؤلاء وعشرات الإداريين من أمثالهم الذين قادوا الدولة في أواسط القرن التاسع عشر، وأدت جهودهم إلى إعلان الدستور للمرة الأولى عام 1877 في بداية عهد السلطان عبدالحميد الثاني، إلا أن السلطان آثر أن يعلق الدستور وأن يتبع سياسة محافظة تطارد الإصلاحيين وتقرب المحافظين من رجال الدين.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى