محمد عبدالحليم عبدالله.. فارس الرومانسية المظلوم حيا وميتا

مرت في صمت ذكرى ميلاد الأديب المصري الراحل محمد عبدالحليم عبدالله الذي ولد في 3 فبراير/شباط من سنة 1913، دون أن تهتم به أو تنشر عنه أية صحيفة أو مجلة أدبية أو نقدية، ولا يزال سر التجاهل الكبير الذي لف محمد عبدالحليم حيا وميتا لغزا يستعصى على الفهم لكل من يعمل في الحقل النقدي والأدبي العربي.

رغم ما ناله محمد عبدالحليم من جوائز وتقدير من قرائه الذين أقبلوا على أعماله الروائية، إلا أنه عاش تحت عبء ثقيل من آلام نفسية، ومرارة الإحساس بالغبن والاضطهاد، فقد لازم أعماله تجاهلا نقديا لم يعرف أسبابه حتى وافته المنية في عام 1970، لذا صرخ محمد عبدالحليم في النقاد: لماذا تتجاهلونني أنتم؟ إنني لا أطمع في تفريط أو مديح، وإنما أتلهف حقا على معرفة مكاني بين كتاب مصر، لقد نلت من الجوائز ما ينأى بي عن الإحساس بالاضطهاد، ولكن لا أدري سببا واضحا لموقف النقد مني؟

جاءت كتابات محمد عبدالحليم متأثرة إلى حد كبير بتلك النزعة الرومانسية، فالعاطفة ظلت الموضوع الأثير لديه الذي نسج من خلال رواياته، التي لاقت صدى جماهيريا واسعا خاصة في أواسط الشباب وصغار السن كروايات: لقيطة، بعد الغروب، شجرة اللبلاب، شمس الخريف، التي وجدت الصدى النفسي الملائم، فهي تنحو إلى تجسيد شخصيات رومانسية حالمة تسعى إلى تحقيق أفكار مثالية عن الخير والجمال فتلاقي الصعاب والأهوال، وتلك هي سمة الجيل الذي عبر عنه محمد عبدالحليم بصدق.

• طفولة ثرية

كانت طفولة عبدالله من ذلك النوع الذي يتعذر على الإنسان أن ينساه، لذلك ارتكزت أعماله على شجرة “الذاكرة”، فقد اختار البطل طريق العلم، ليعوض به ما صادفه في حياته من أهوال، فقد بدأت أزمته منذ الطفولة المبكرة، كما أشار في مقدمة الرواية، لذلك اعتمدت الرواية على بنية التذكر كإطار للأحداث والتفاصيل التي يسردها البطل ذو الرؤية الثنائية التي تعتمد على لونين فقط هما الأبيض والأسود، لذلك ظل الصراع دائرا بين اللونين في جميع أعماله الروائية، الأبيض بدلالاته الناصعة كتعبير عن النقاء والبراءة إلى آخر المترادفات، في مواجهة الأسود المعبر عن الشر والقبح في هذا العالم، حيث يقول البطل عن زوجة أبيه “ظهرت في بياض أيامنا وسواد ليالينا” ويأتي الراوي أو ضمير المتكلم ليعبر عن وجهة نظر “المفرد” في “المجموع”، فيرى حركة الشخوص بمنظور يميل إلى المبالغة التي تستدر عاطفة القارئ ليتواصل مع هموم وأحزان البطل.

كان محمد في هذه المرحلة الممتدة عبر ست روايات أسيرا للنزعة العاطفية المسرفة أو على الصعيد الجمالي، ولذلك فقد أصبحت الميلودراما هي سيدة الموقف في أعماله، حيث تستنزف أكثر المواقف قتامة، وأبعدها عن الممكن، وأشدها التصاقا بنفسية ثابتة عند وعي الطفولة.

أما القالب الفني المختار عند محمد عبدالحليم فهو الذكريات التي لا ترد على هيئة ألوان وخطوط متباينة في توازيها ونقاطها وانكسارها، وإنما على هيئة مجرى متدفق بالانفعالات في جدول مستقيم لا ينحني، فالذكرى في “شجرة اللبلاب” تتحول مع الزمن إلى ذاكرة لا تخيب، معلقة على صدر البطل كمرآة لا تعكس سوى طفولته وصباه.

في روايات محمد عبدالحليم الأولى كانت العلاقات العاطفية تكاد تكون المحور الذي تدور حوله الأحداث، حتى إذا قرأنا “الباحث عن الحقيقة” الرواية الثانية عشرة له، نجد أن موضوع الحب قد اتجه نحو الحقيقة ونحو الواقع المعاش.

رفض عبدالله اتهامات النقاد له في ذلك الوقت بالرومانسية المفرطة على صفحات مجلة “الرسالة الجديدة”، في حوار غلبت عليه الحدة واستشعار الخطر من هؤلاء النقاد الذين يكرسون لكتاب بعينهم، ولا يقدرون تماما أعمال الحقبة الرومانسية التي تزعمها محمد عبدالحليم في ذلك الوقت، وضمت إحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي، وغيرهما من الكتاب الذين غلبت على أعمالهم النزعة العاطفية، وعلى الرغم من ذلك فقد حققت أعمالهم أعلى الإيرادات في النشر لما بها من موضوعات أثيرة لدى القارئ العادي.

في قالب الذكريات تدور أحداث الرواية الأخيرة لكاتبنا وهي “للزمن بقية”، حيث نلمس مدى التطور في الموضوع الروائي عند محمد عبدالحليم، حيث البطل “صلاح النجومي” يسرد وقائع حياته من خلال بنية روائية أراد بها الكاتب أن يخلصها الكثير من الشوائب القديمة، وارتكزت على محاور جديدة على أعماله بين الزمنين الماضي والحاضر، وبين العالمين الداخلي والخارجي، والمونولوج الذي يتواتر من صوت الراوي والكاتب معا، حيث تظهر شخصيات القصة بغض النظر عن تمايزها في الجوانب الأخرى مثل المؤلف تستخدم التشبيه، وكلها تؤيد كلامها بالحكم، مما يجعلنا نحس بحضور الكاتب دائما إلى جوارها، رغم إتاحة الفرصة لها للانفراد بالقارئ، فهم أشبه بأبناء شديدي الشبه بوالدهم، وشديدي الشبه بعضهم ببعض.

ولعل رحيل محمد عبدالحليم عبدالله المبكر هو الذي حال بينه وبين إتمام مسيرة التطور الفني التي بدأها قبل سنوات من رحيله، ولكنها النفس الشفافة التي استشعرت فداحة التجاهل النقدي، والتعتيم على عطائها الإبداعي هو الذي جعله يردد مع أحد أبطاله: ما فائدة أن يضيء القمر مثل هذا المكان؟

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى