محمد غولي مجد: مَن سمع بمجاعة إيران الكبرى؟

 

ثمة تاريخ معروف، منشور عنه، وإن بدرجات مختلفة من التزوير وقلب الحقائق، وهناك تاريخ آخر، أي أحداث مرّت على هذا العالم أو على مناطق فيه، تتجاهلها كتب التاريخ في الدول ذات المصلحة في إخفاء حقائق. الحقائق المسكوت عنها في مؤلفات التاريخ، يطلق مؤرخون عليها تسمية «التاريخ السري»، وإن كان هذا مرتبطاً بما يسمّى العصر الفكتوري الذي يشير إلى فترة حكم ملكة بريطانيا فكتوريا (الألمانية ــ 1871-1901). ثمة علماء كتبوا عن «التاريخ السري»، فقالوا «تتم كتابة كثير من الأحداث التاريخية من قِبل القوى نفسها التي مارست دوراً أساساً في أحداثه وإن من وراء الكواليس. وغالباً ما يكون السبب إخفاء دورها اللاأخلاقي في التسبب في الاضطرابات مثل الانهيار المالي والثورة والحرب». سنعود إلى موضوع التاريخ السري في عرض منفصل.

«مجاعات العصر الفكتوري: إيران ومجاعة الأعوام 1869-1873» (هاميلتون بوكس ــ 2018)، مؤلف ريادي يتناول بعض المجاعات التي اندلعت في العالم في القرن التاسع عشر. صحيح أنّ مؤلفات عديدة تناولت هذا الموضوع بالبحث، لكنّ المؤلف يركز على تفاصيل مجاعة الأعوام 1869-1873 التي ألمّت بإيران وتجاهلتها مؤلفات التاريخ في أوروبا، ما جعلها جزءاً من «تاريخ القرن التاسع عشر السري». الكاتب، المؤرخ الإيراني محمد غولي مجد الأستاذ المحاضر في «جامعة برنستن»، تناول موضوع المجاعة المريعة في بلاده من منظورات عدة، اعتماداً على مصادر ذات صلة. يقول إن دراسته هذه تبدو أوّل مؤلّف عن هذا الموضوع باللغة الإنكليزية تعتمد على تقارير رحلات الأوروبيين والأميركيين بمن في ذلك المسؤولون البريطانيون الذين كانوا يتنقلون في البلاد في مهام رسمية، إضافة إلى تقارير البعثات الدبلوماسية البريطانية والتقارير الصحافية في صحيفتي «تايمز أوف لندن» و«نيويورك تايمز»، والوثائق الفارسية والتقارير والمراسلات الأميركية ذات الصلة.

من الحقائق المهمة التي يذكرها الكاتب، اعتماداً على مصادره، أنه في فترة خمسة وسبعين عاماً الممتدة من عام 1869 إلى عام 1944، عانت إيران ثلاث مجاعات أودت بحياة 25 مليون شخص. في حين زاد عدد سكان العالم بأكثر من الضعف خلال فترة المئة عام الممتدة من 1850 إلى 1950، لم يتغير عدد سكان إيران في عام 1944، إذ راوح عددهم بين 10 و12 مليون نسمة عن 11 مليوناً في عام 1841. وفي حين أن المجاعات التي وقعت في زمن الحرب في 1917-1919 و1942-1943 حظيت باهتمام بعض العلماء والبحاثة، إلا أن المجاعة الكبرى في الفترة 1869-1873 التي قضت على ثلثي سكان إيران (نحو خمسة ملايين روح)، وهي الأطول والأكثر كارثية، ظلت غير مستكشفة من الناحية العملية. فالمراجع الغربية تضم ثلاث مقالات علمية لا أكثر، بينما تحتوي مقالتان أخريان على مراجع غير مباشرة. لكن مختلف التقارير تلك تختلف عن بعضها بخصوص بدايتها وفترة استمرارها وعدد الضحايا وأسبابها المجاعة الكبرى. لكن ثمة اتفاق على أنها اندلعت في أنحاء البلاد كافة. وثمة ملاحظة مهمة بخصوص عدد ضحايا تلك المجاعة. إذ يورد الكاتب العدد 12000000 نسمة، من أصل 18 مليون نسمة وهو عدد سكان إيران في ذلك الوقت، بين من قضى جوعاً أو هاجر، وإن يرجح أن أغلبيتهم توفوا لأن روسيا والدولة العثمانية أغلقتا حدودهما مع إيران عام 1871. فقد بلغ عدد سكان إيران بعد المجاعة 6 ملايين نسمة أي ثلث مستوى ما قبل المجاعة. لم تتمكّن إيران من استعادة عدد سكانها عام 1869 إلا في عام 1910، وكانت بالكاد متعافية حتى ألمّت بها المجاعة الكبرى في 1917-1919. ومن الجدير بالذكر أن مجاعة إيران حدثت في وقت ألمت مجاعات بمناطق أخرى من العالم، في الصين والهند ومصر والجزائر والمغرب (تحولت بعض مدنها إلى مقابر مكشوفة وفقدت نحو ثلث سكانها)، وهي أسوأ مجاعات في تاريخ البشرية المعروف، وسنعود إلى هذه المآسي في عرض مؤلف آخر تعامل معها.

يستعرض الكاتب في عمله الريادي هذا أسباب المجاعة كما وردت في مصادره آنفة الذكر، ويقول إنّ ثمة باحثين يقولون إن أحد المسببات الرئيسة الوارد ذكرها هي الجفاف أي العوامل المناخية. ويستعرض المعلومات المتعلقة بأحوال الطقس في مختلف أنحاء إيران ومناطقها في فترة المجاعة.

العامل الثاني الذي يتعامل المؤلَّف معه هو «محاصيل التصدير والتجارة الخارجية»، ويناقش مختلف الآراء في هذا الخصوص من بينها أن المزارعين استبدلوا زراعة الأفيون بالقمح، ما قاد إلى نقص حاد فيه وارتفاع أسعاره. لكن الكاتب لا يقبل هذه الآراء لأنها لا تشرح سبب امتناع إيران عن استيراد القمح وقت المجاعة التي ألمت بمدن ساحلية أيضاً ومنها بوشهر وبندر عباس. بل إنها استمرت في تصدير القمح في تلك الفترة الزمنية. في عام 1868/1869، أي عام قبل المجاعة، صدرت إيران من مرفأ بوشهر إلى ميناء بومباي الهندي 1284 طناً من القمح من مجموع الإنتاج الوطني البالغ 4000 طن. لم تتمكن الدولة الإيرانية من منع التجار الإنكليز المسيطرين على تجارة الحبوب في البلاد من تصدير القمح إبان المجاعة، ما قاد إلى أعمال شغب في بوشهر حيث اقتحمت الجماهير الغاضبة المخازن. ويورد المقتطف الآتي: «في 17 حزيران 1870، اقتحم حشد من 2000 شخص مقر شركة تجارية بريطانية في مرفأ بوشهر كانت لا تزال تصدر القمح وأوقفت عمليات التحميل. ولأن السلطات لم تستطع السيطرة على الموقف، طلب سي ألِسن القنصل العام البريطاني من اللفتنانت كولونيل ل بيلي المقيم السياسي للحكومة الهندية في بوشهر إقناع الشركة بالإفراج عن مخازن القمح المتاحة بسعر عادل». كما يشير الكاتب إلى استمرار التجار الإنكليز في ذلك الوقت في تصدير القمح إلى روسيا من إقليم أذربيجان الإيراني. العامل الثالث الذي قاد إلى المجاعة هو قيام ممثلي النظام وملاك الأراضي والتجار وقادة رجال الدين بتخزين القمح والمضاربة به. هذه بعض الجوانب التي يناقشها هذا المؤلف المهم، ذلك أننا قصرنا عرضنا هذا على نقاط رئيسة لا تغطي محتواه كافة.

 

Victorian Holocaust, Iran in the Great Famine of 1869-1873 . Mohammad Gholi Majd. Hamilton Books, 136pp. 2018.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى