محمد فياض يدرس فرق الشيعة على مدار التاريخ

“ما أعظم ما أصيبت به هذه الأمة بعامة، والشيعة بخاصة، بهلاك ابن الوصي وابن بنت النبي.. نور البلاء المرجو لإقامة الدين، وإعادة سير الصالحين، فاصبر رحمك الله على ما أصابك، فإن فيك خلفًا ممن كان قبلك.. ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك، المحزونة بحزنك، المسرورة بسرورك، السائرة بسيرتك، المنتظرة لأمرك، شرح الله صدرك، ورفع ذكرك، وأعظم أجرك، وغفر ذنبك، ورد عليك حقك…”

هذا جزء من رسالة بعث بها الصحابي سليمان بن صرد، من كوفة العراق، إلى الحسين بن علي، في الحجاز، بعد وفاة شقيقه الحسن بن علي في ظروف غامضة.

كان ابن صرد يقترب من إتمام العام التسعين من عمره، وكان على رأس من استدعوا الحسين إلى العراق كي يحاربوا معه من تآمروا على المسلمين من مسلمي الشام الأمويين.

وعندما لبى الحسين الدعوة، ووجه بخذلان الأنصار، وسيوف الأعداء، فقتل، هو وعموم أهل بيته، وغالب رفقائه.

وأحس ابن صرد، والشيعة، بعد مقتل الحسين، بالذنب العظيم، وأصابهم الندم الشديد بسبب خذلانهم الذي أودى إلى هذه المقتلة العظيمة التي وقعت في أهل بيت رسول الله.

واجتمعوا للتدارس، وخطب المسيب بن نجبه، وهو الرجل الثاني في الشيعة بعد سليمان بن صرد، قائلًا:

“أما بعد.. فقد ابتلينا بطول العمر، وكثرة الفتن، وقد ابتلانا الله فوجدنا كاذبين في نصرة ابن بنت رسول الله بعد أن كتبنا إليه، وراسلناه، فأتانا طمعًا في نصرتنا إياه فخذلناه، وأخلفناه، وأتينا به إلى من قتله، وقتل اولاده، وذريته، وقرابته الأخيار، فما نصرناهم بأيدينا، ولا خذلنا عنهم بألسنتنا، ولا قويناهم بأموالنا، فالويل لنا جميعًا ويلًا متصلًا أبدًا، لا يفتر ولا يبيد دون أن نقتل قاتله والممالئين عليه، أو أن نُقتل دون ذلك، وتذهب أموالنا، وتخرب ديارنا..
أيها الناس قوموا في ذلك قومة رجل واحد، وتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلك خير لكم عند بارئكم..”

جرى هذا في العام الحادي والستين بعد الهجرة، فور مقتل الحسين، ليتكون أول حزب شيعي يطالب بدم الحسين، وسمي بـ “التوابون”.

وخرج هذا الحزب عام 65 الهجري في خمسة آلاف رجل للأخذ بالثأر من عبيدالله بن زياد، قائد الجيش الذي قتل الحسين بن علي، إلا أنه لقي هزيمة منكرة أمام ثلاثين ألفًا، هو تعداد جيش الشام، وانتهى أمر هذا الحزب، لكن لم تنته آثاره، إذ أنه أثناء رحلة الموت هذه سنّ بعضًا من سنن التشيع التي نرى طقوسها حية حتى الآن.

يقول الدكتور محمد فياض، مؤلف كتاب “فرق الشيعة.. بين النشأة والتطور والعمل السياسي”، الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة في سلسلة “إصدارات خاصة”، موضحًا أثر “التوابون” في اجتماعيات الشيعة المتوارثة إلى يومنا هذا: فعندما تحرك سليمان بن صرد، هو والتوابون، لتحقيق هدفهم، كانت محطتهم الأولى في طريق مشروعهم الثأري هي “كربلاء”، وهناك مروا بقبر ملهمهم الحسين بن علي، فانتابتهم مشاعر بالغة التعقيد؛ من حزن وندم شديدين، لتنفجر هذه التعازي الشيعية من بكاء، ونحيب، وعقاب أنفسهم عقابًا جسديًا، ويصل الشعور إلى ذروته فيتزاحموا عند قبره أشد من ازدحامهم عند الحجر الأسود، وأقاموا يومًا وليلة عليه، متضرعين، عاضين على الأنامل من الندم، متعهدين أنهم على مثل ما قتل عليه الحسين، يتمنون لو أنهم كانوا قتلوا معه، وزادت هذه المشاهد من حرارة أنفسهم فازدادوا حنقًا، وعزموا على تصدير الموت لقتلة الحسين.

وعند مرور التوابين بكربلاء نبتت الأفكار الشيعية لتتبلور بعد ذلك، وتشكل أبعادًا اجتماعية خاصة، فكانت فاتحة عمل لا يزال أساسيًا، حتى الآن، في الممارسات الاجتماعية الشيعية، مثل زيارة قبر الحسين، والترحم عليه، فضلًا عن الندم وعقاب النفس الذي تمارسه الشيعة في ذكري مقتل الحسين بن علي من ضرب للقامات والصدور وشق الثياب ولطم الخدود، وهو بعد أساسي من الأبعاد الاجتماعية للتشيع.

ويشير المؤلف إلى أن الشيعة اعتبروا هذه الأفعال من وسائل التوبة: إذ أنهم يعتقدون أن أخطاء أجدادهم قد انحدرت إليهم، ولا وسيلة للتكفير عن هذا الخطأ إلا بإراقة دمائهم في نفس الفترة التي أريق فيها دم الحسين، بل بالغ بعضهم في هذا ليسفح دمه على الأرض فيختلط بالتربة التي امتصت دم الحسين، وكأنه بذلك مزج دمه بدمه، فلم يضن عليه به.

جاء هذا الكتاب في خمسة فصول، اهتم أولها بنشأة حركة “التوابون” ونهايتها، كأول حركة شيعية تحركت بالفعل للثأر من قتلة الحسين بن علي، في حين تناول الفصل الثاني شخصية القائد الشيعي المختار بن أبي عبيدالله الثقفي الذي رفع راية الدعوة لمحمد بن علي بن أبي طالب، المشهور بـ “ابن الحنفية”، وحارب الأمويين ودوخ جيوشهم، كما حارب أتباع عبدالله بن الزبير الذي كان قد أعلن نفسه خليفة على الحجاز والعراق ومصر، قبل أن يقتل في مشهد درامي مهيب.

أما ثالث الفصول فخصه المؤلف للكلام عن الفرقة الزيدية، التي وصفها في مطلع الكلام عنها بأنها: من الفرق القلائل التي لها شخصية مميزة عن فرق الشيعة الكثيرة، فهي صاحبة خصوصية في الفكر والمنهج، وكذا خصوصية في كيفية تطبيق ذاك الفكر، وذاك المنهج، كما أنها أقرب فرق الشيعة إلى عالم السنة، ولإمامها فكره الخاص، وأيديولوجيته التي ضربت بالمبادئ الأساسية للتشيع عرض الحائط، رغم كونها إحدى أهم الفرق الشيعية.

ويتناول الفصل الرابع التشيع الإمامي في مرحلة ما قبل الانشقاق الذي يعد من أهم أنواع التشيع، وأشهرها، وأخطرها في الوقت نفسه، ففيه يكون الإمام هو البطل الذي تدور الأحداث كلها في فلكه، لذا فالإمام، من وجهة نظر الشيعة، هو الشخص المعصوم الذي لا يقع في الخطأ، ولا بد أن يكون من نسل الحسين، لا من نسل الحسن رغم أن أبيهما واحد!

ذلك لأن الحسن تنازل عن الإمامة.

أما الإمامية الإثنى عشرية، وهم أصحاب فكرة المهدي المنتظر، الذي دخل السرداب من عشرات القرون طفلًا وسيخرج في زمن ما، والتي ترتب عليها أمران في غاية الأهمية والخطورة، طورا الفكر الشيعي سياسيا، هما: ولاية الفقيه، وخمس الإمام. هذه الفرقة الشيعية الأخطر على الإطلاق هي موضوع الفصل الخامس، والأخير، من الكتاب.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى