محمود المسعدي ومشروعُ إماتة الموت
محمود المسعدي هو أحد مداميك السرد التونسيّ المُعاصر، إن لم يكُن المدماك الأوّل في مضمار ذلكم الأدب الحكائيّ المُؤنِس المُبهِج في بلاد القيروان، والذي لا نحبّ لمشهده أن يغيب عن دنيانا الثقافيّة العربيّة، بخاصّة أنّ هذا النّوع من السرد يتّسم بالتأصيل المتجذّر في بيئته الثقافيّة العربيّة والإسلاميّة من جهة.. وكذلك بهذا التحديث الآتي من معرفة صاحبه الواسعة بالأدب الفرنسيّ والغربيّ بعامّة.
هنا قراءة خصوصيّة للمسعديّ وآفاقه الأدبيّة والثقافيّة والتربويّة، تقدّمها الكاتبة التونسيّة أميرة غنيم، ترى فيها أنّ المسعدي حقن الثقافة التونسيّة بمصلٍ مضادّ للشيخوخة والهرَم.
تأتي على الإنسان فترة في الصبا المبكّر لا يصدّق فيها أنّه ميّتٌ كما هُم ميّتون. حالة من الوعي المبكّر الفاجع تتّخذ الإنكارَ تقيّة من الوجع، فترى الصبيَّ، وقد قيل له إنّ أمّه تموت وإنّه يموت، يسألُ “الموتى” من الأحياء حولَه وجِلاً: وهل الرُسل أيضاً يموتون؟ ويُنكرُ الجواب إذ يأتيه بالإيجاب. فيظلّ ناظراً نزول الوحي عليه، عساه ينفلتُ، إذا ارتقى مرتبة الأنبياء، من جُرف الحياة المتدحرجة مع كلّ نفَسٍ نحو العطب والدثور. في هذه الفترة يكبرُ في النفْس، في غفلة من الوعي، الشوقُ المبهمُ إلى حمل رسالةٍ ولو بغير نبوءةٍ، شوقٌ أسمّيه “شوقَ أبي هريرة”.
ثمّ لا يكون الحيُّ إنساناً إلاّ وهو مفتقر، بوجه ما، إلى شيء ما. مفتقرٌ إلى ما يسدّ حاجته جسداً ذا مسغبة يحبّ أن يرتاحَ ويشبع، وتلك أدنى الحاجة.. ومفتقرٌ إلى مَا يسدّ حاجته روحاً مثلومة في جوهرها، مخرّمة بالثقوب، ولكنّها تنشد الامتلاء. روحٌ جوعَى إلى المطلق لا يفارقها شوقٌ أزليّ إلى الأبديّة يجرفه بانتظامٍ مفزعٍ غيلُ البِلى المترصّدُ وسيلُ الفناء المحتوم. من هذا الغَمْرِ المتقدّم حثيثاً متهدّداً الإنسانَ بالغرقِ في لجّة العدم، يولدُ شوقُ الكائن المبهمُ إلى “السُدّ”، سُدٍّ رمزيّ يقدّه من وهمه صخوراً صلدة عالية تحميه إذ يتدارى بها، أو هكذا يتوهّم، من هشاشة منزلته البشريّة البائسة.
ومن نُطفة العوَز إلى السُدّ برجاً مشيّداً في وجه الفناء، يُخصّبه شوقُ “أبي هريرة” إلى رسالةٍ تُنجيه من أن يموتَ غُفلاً مغموراً، ينخلقُ في رحمِ الرجاء الشعراءُ والفلاسفةُ والأدباء والعلماء. يبني بعضُهم، كشأنِ محمود المسعدي (1911- 2004)، سدوداً من صَفوان اللّغة وجندلها، جلاميد ثابتة الأصل حديدة الطرفِ تنافحُ عن صاحبها من أن يموتَ نسياً منسيّاً. وبالكلمةِ التي حقّقت لآدم إنسانيّته يومَ علّمه الله الأسماءَ كلّها، يقارعُ هؤلاء الرّدى، ويكتبون “حديثهم”، كلٌّ في اختصاصه، وشماً في ناصية التاريخ.
فلا تصدقنّ، إذن، المسعدي في مقدّمة حديث أبي هريرة، فما أراه إلاّ قد غمزك بعينه حين قال “كجميع الذين كتبوا من قبل، يظنّون أنّهم خلّدوا وأماتوا الموتَ وما خلّدوا.” فما كلامه ذاك إلاّ من أسلوب الحكيم ينبّهك إلى الأهمّ في فعلِ الخلق الإبداعيّ حتّى لا تنشغلَ بمضمون النصّ ولغته الساحرة عن جوهر الكتابة وغايتها الأصليّة: إماتةِ الموتِ وإحياءِ الحياةِ، ولا أكثرَ من ذلك ولا أقلّ.
رفعَ محمود المسعدي “السُدّ” عالياً بين متسامقات نصوصِ الأدب العربيّ الحديث، وأطراه نقّادٌ من المشرق والمغربِ، ورُفعت إليه النواظر وقد تناهى رفعةً واكتمالاً حتّى حجبَ عن الأعيُن المتعلّقة بشواهقه أن تُبصرَ ما انتثر حوله من بدائع السرد التونسيّ في فترة ما بين الحربَين وما بعدها، فظلّت منه طويلاً كوصيفة العروس لا تُرى، وإن كمُلت حسناً، إلاّ بنصف عينٍ.
وكتبَ صاحبُ “السُدّ” في الفترة نفسها، أو قبلها قليلاً، أعجوبته الأخرى “حدّثَ أبو هريرة قال..” فجعلَ من أبي هريرة، برمزيّته في الثقافة الإسلاميّة ثقةً راويةً للحديثِ، محتاجاً، ولا بدّ، إلى قائلٍ أصليّ جديد، غير النبيّ، يحدّث عنه وينقلُ منه. ولم يكُن هذا القائلُ الجديد المجدِّد إلاّ المسعدي نفسه، الكائنَ المرجعيّ مؤلّفاً كاتباً. إيماءة لطيفةٌ ولا ريب، وإشارة خاطفة رشيقة، وتلميحٌ أبلغ من التصريح، كما يقول صاحب “أسرار البلاغة”. إيماءةٌ بأنّ الكاتبَ المُبدع صاحبُ رسالةٍ لا تخلو من إعجاز. وبسببِ إعجازها المركّب معنًى ومبنىً أضحت رسالة الإبداع أهلاً لأنْ يحملها إلى المتقبّل اسمٌ مختصٌّ في نقلِ الرفيعِ من جنس القولِ الفريد الذي ليس كمثله قول. وجازَ للمسعدي أن ينسبَ متنه إلى مرويّات أبي هريرة.
أليسَ يحقّ للمسعدي أن يدّعي، ولو مُوارباً، خلافة المتنبّي، وأن يُحاولَ خلوداً لا يُتاح إلاّ للفرقة الناجية من مخالب النسيان؟ ألم يُجمِع القرّاء والنقّاد على أنّه كاتب فذّ ينحتُ نصوصه نحتاً على غير مثال، ويقتلع مفرداتِه من متن المعجمِ التراثيّ كما يُقتلع المرمرُ من جوفِ الجبلِ الرخاميّ؟ ألم يبقَ سُدُّه “يتيم دهره” بعبارة توفيق بكّار، وبقيَ اتّجاهه في الكتابة التجريبيّة الفلسفيّة ذاتِ المنسوب اللغويّ العالي “عقيماً” على حدّ عبارة شكري المبخوت، كأنّما صُرفَ الكتّابُ عن السير فيه صِرفة؟
كانَ المسعدي ضاجّاً بخلجة الحياة يُنازلُ الموتَ في كلّ ما كَتب. موتَ يد الإنسانِ العربيّ مشلولةً على دفّة الحضارة الإنسانيّة. موتَ عقله بالسكتة الدماغيّة في بطونِ الكُتب الصفراء. موتَ أملِه في بناء حاضرٍ يُستعادُ به المجد الزائل. شهدَ، وهو الذي درسَ أوّلاً في المعهد الصادقيّ على يد فرنسيّين، ضمورَ الرافدِ العربيّ في التكوين الأساسيّ للتونسيّين. فكان يختلفُ، في ما رواه في أحد محاوراته مع ماجد السامرّائي، إلى “جامع الزيتونة” ليحضر في أوقات فراغه يوم الأحد دروسَ أخيه الأكبر في الفقه واللّغة والأدبِ. سمعَ نذيرَ التغريبِ مؤذناً بموتِ الهويّة التونسيّة تحت معول “الفرْنسة” المنهجيّة، فحمَل همّ الكيانِ القوميّ في صدر الطالبِ المشغوفِ معرفةً حين هاجرَ إلى باريس يراود السوربون عن التبريز في اللّغة والآداب العربيّة.
كانت العربيّةُ سدَّه الحضاريّ أمامَ “تسُونامي” الاستشراق الحامل لثقافة استعماريّة لم تكُن ترَى في العربِ إلاّ تخلّفاً وانحطاطاً. وكانَ بالعربيّةِ أيضاً يحاولُ إماتة الموت. ألم يقل في بعض ما كَتب: “إنّ عوامل الموت في أيّ لغة من اللّغات، إنّما هي أثرٌ من آثار موت الإنسانيّة في الإنسان”؟ فكانَ يُصارعُ الموتَ بذؤابة قلمٍ مسنونٍ، وبلسانٍ عربيّ مبين، موتَ الإنسانيّة في الكائن العربيّ وقد أضحى مستهلكاً عقيماً يعيشُ عالةً على البشريّة ثمّ مثل الدابّة يَنفق.. أليسَ هو القائل أيضاً: “تموت اللّغات بموت الشعوب أو بموت الأفراد وتحيا بحياتهم؟”.
آمنَ بقيمة حياته في دَورة الوجود وسعى إلى أن يضفيَ عليها معنى. ولم أقرأ له شيئاً في نصوصه الإبداعيّة أو مقالاته الفلسفيّة أو حواراته الفكريّة إلاّ وسمعتُه يرتّل، على نحو ما، بيتَ أبي القاسم الشّابي في “نشيد الجبّار”: “سأعيشُ رغمَ الداء والأعداء..” قالها على لسان “غيلان” مُخاطباً “ميمونة” من بعد سقوط السدّ: “مَن كانَ واحداً أوحد فإذا صعقته الصاعقة فهو الذي أهلك الصاعقة”، وكرّرها على لسان مدين في “مولد النسيان” مصرّاً مؤكّداً: “نعم، ومع هذا أريد أن أقتلَ الموت لأنّ الأبدَ واجبٌ والحياة..”
وما أبعدَ الانهزاميّة عن أدبه على الرّغم من نهايات أبطاله المأسويّة. فقد كانَ يشيد بنضال الإنسانِ وعزيمته المتجدّدة. ويُكبر اضطلاعه بمسؤوليته في الوجود على الرّغم من شعوره اليقينيّ المحبط بأنّه “سيأتي يومٌ يسترخي اللّحم ويبيضّ كالموز ويطيبُ للدود ويكون الختام”، فالعبرةُ بالمضيّ قدماً في الطريق التي لا تكون طريقاً “حتّى تكون بلا نهاية” (من “مولد النسيان”)، والعبرةُ بأنْ يتناوبَ الأفرادُ على السير فيها، كينونةَ إثرَ أخرى، وتجربةً في الخلقِ والإنشاء تتلو أختها لتنصبّ جميعاً روافد متآلفة في نهرِ الأبديّة الخالد.
كانَ مؤمنا حقّاً بقيمة الفرد في الفعلِ والتغيير. ولم يكُن، على الرّغم ممّا يُقال عن “وجوديّته المسلمة”، وعن نرجسيّة أبطاله، وتفضيلهم الوحدةَ وازدراءهم الجماعةَ، غامطاً “الآخرَ” الفلسفيّ حقّه في أن يكونَ جزءاً من ملحمة بناء الكيان. وبفكرهِ الإنسانيّ المنفتح على القديم من دون جمودٍ، وعلى الحديثِ من دون انبتات، نجحَ المسعدي في رسالته الأدبيّة بقدر نجاحه في نضاليْه النقابيّ والسياسيّ، المُحتاجَين جوهراً إلى الجهد الجماعيّ. وأطرَفُ من “جدّة القديم” التي جعلها عنواناً لأدبه، “جدّة القديم” في ما قاده من إصلاح تربويّ شاملٍ (إصلاح 1958) حينَ تقلّد وزارة التربية القوميّة طيلة عقد من الزمن. فقد كتبَ، بما أقرّه من إصلاحاتٍ تُغني الرافد القوميّ ولا تلغي الرافد الأجنبيّ، تاريخَ الجيل المستنير الذي لم ينفكّ يدافع حتّى اليوم عن جدليّة الأصالة والحداثة في الفكر العربيّ.
أرجعَ المسعدي الاعتبار إلى اللّغة العربيّة في التعليمِ التونسيّ بُعيد الاستقلال، وغيّر المناهج بما يتماشى مع متطلّبات المرحلة، وبدّلَ المضامينَ، ثمّ حقنَ الثقافة التونسيّة، حينَ تولّى حقيبتها الوزاريّة أيضاً، بمصلٍ مضادّ للشيخوخة والهرم. ولسنا نظنّ إلاّ أنّه نقَل، في واقع الأمر، من الأدبِ إلى السياسة مشروعه في إماتة الموت.
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)