محمود الورداني: روايتي الجديدة عن هزيمة الثورة!
الكتابة لدى محمود الورداني هي رحلة بحث، بحث من أجل هدف محدد، أو عن يقين ما، لكنه في رحلته لا يصل إلى شيء ليبدأ رحلته من جديد، وكأن البحث، مثل بيت محمود درويش، أجمل من الوصول، أجمل من البيت ذاته. انتهى الورداني مؤخرا من رواية جديدة «البحث عن دينا» نشر أربعة فصول في بعض الدوريات الثقافية، من اثني عشر فصلا، الرواية حملت كلمة «بحث» لأول مرة، رغم أن أبطال رواياته السابقة أيضا يبحثون عن شيء مفقود «رائحة البرتقال»، «طعم الحريق»، «موسيقى المول» رحلات بحث أيضا.. أسأله عن هذه التيمة هل تعد أساسا في مشروعه الروائي؟ يجيب: «أتحفظ على كلمة مشروع، ربما ليس لدي مشروع روائي معين، المشروع يعني أن لدي خطة مسبقة، أو أفكارا ثابتة أحاول تنفيذها، لكن الكتابة بالنسبة لي شيء غير مكتمل، رحلة بحث، في ذاتها، لا عن حقيقة، أو يقين، أو مستقبل.. ولكن رحلة بدون وصول إلى وجهه معينة»!
أسأله عن الثوابت التي يعمل عليها في «اللامشروع» الروائي.. أو عبر رواياته الثماني؟ يفكر قليلا: «حتى الثوابت لدي متغيرة، في طعم الحريق هناك أم تضيع للأبد، لكنها تعود في «بيت النار» كحصان جامح لا تتوقف عن العدو وأداء مهماتها الإنسانية».. يواصل: «الأم تيمة رئيسية في أعمالي، لكنها تأخذ أشكالا متغيرة من عمل إلى آخر، والأمر نفسه بالنسبة للسجن، في أعمالي ثمة سجن، لكنه مرة سجن عبثي لا يمكن تصديق وجوده، ومرة أخرى يظهر كسجن واقعي بحراسه وجنوده. وهكذا لو أعدت التجربة نفسها بين عمل وآخر فستأخذ معنى وواقعا ودلالة أخرى. همي العكوف على عالم أشتغل عليه، تعنيني التفاصيل الخاصة بالرواية لا معانيها المتجاوزة».
في الرواية الجديدة «البحث عن دينا».. نجد أنفسنا أمام فتاة صغيرة، لها أثر جناحين منتزعين عنوة، أثرهما واضح في جسدها، وتعاني بسبب ذلك من التهابات شديدة.. تدور الرواية في اجواء الثورة المصرية (25 يناير)، الاعتصامات، الإضرابات، المعارك، وما بعدها لتختتم بالفصل الأخير الذي يحمل عنوان «قليل من البكاء على الأطلال» لنفهم اننا وصلنا إلى 30 يونيو حيث «الثورة الثانية ضد جماعة الإخوان».. أسأله: خمس سنوات تقريبا منذ اندلاع الثورة هل هي كافية لتأملها فنيا في عمل روائي كبير؟ يجيب: الثورة المصرية حدث مزلزل، لم نعرفه من قبل، ما عشته من قبل كان مجرد اضرابات واعتصامات وتمردات، لكنها لم تصل حقيقية لمستوى ما جرى في 25 يناير.. عندما اندلعت الثورة كنت على وشك الانتهاء من روايتي «بيت النار».. وأنهيتها على عجل، لم أستكمل مهنة البطل كصحافي، لأنني أحسست أن العالم يتغير، وأن الكتابة قبل 25 يناير ستختلف عما بعدها، الثورة كانت حلما ضد 30 عاما من إذلال مبارك لنا.. من قبل انتظرت حوالي 7 سنوات لأكتب عن حرب أكتوبر التي شاركت فيها، وأن أنتظر أكثر من عشر سنوات لأكتب عن «انتفاضة يناير 77».. أما في الثورة المصرية فكان علي أن أتخلى عن كل ما عرفت من قبل، كان يجب ألا ننصاع لأفكارنا المسبقة، كان علينا ان ننفعل ونكتب.
أساله: ولكن الفصل الأخير من الرواية يتحدث عن البكاء على الأطلال.. وكأنك تؤمن أو تتيقن من هزيمة الثورة؟
يجيب: بالتأكيد أنا متشائم ومحبط، وأشعر بهزيمة وانكسار شديد، لكن الثورة فتحت أفق لإمكانيات للتغيير قد تتأخر وقد تطول، الثورة حدث كبير لا شك، ثورة بلا قادة تنشد المبادئ النبيلة، ولذا حجم إحباطنا أنها لم تحقق ما خرج المصريون من أجله وكان كبيرا.
أسأله: ولكن ألم يكن هناك أحداث أخرى شبيهة مرت بك، مثل انتفاضة الطلبة، أو انتفاضة يناير 77.. ألا يمكن رصد تشابهات؟
يجيب: عندما بدأت الثورة كنت أتصور ذلك، لكن في كل الأحداث السابقة، كان المصريون يخرجون بالملايين، ولكن لا يستمرون في الميادين يوما أو يومين.. يختفون بسرعة.. ما حدث في 25 يناير حدث مختلف، إصرار وعزيمة على تحقيق انتصار، وتحد للأمن غير مسبوق..
أساله: في الرواية تبدأ بمشهد اعتقالك قبل 25 يناير، وتسرد أسماء شخصيات واقعية نعرفها أو ترتبط بها بصداقة.. هل تحاول أن تكون الرواية تسجيلية لحدث؟
في الرواية تجاوز للواقع، كل رواية تفرض شكل ولغة كتابتها وشخصياتها وزمنها.. ثمة جزء أشبة بالتسجيلي.. ولكن الرواية خيال، إنها رواية عن الأجنحة المنتزعة.
«اليتم» ربما تكون هي الكلمة المناسبة التي دخل من خلالها الورداني إلى عالم الكتابة. بعد ميلاده بعامين مات والده، وهو الأمر الذي يعني أنه تربى على أنه «ليس طفلا». والدته أصبحت ملزمة بأن تنفق على ثلاثة أطفال، من هنا اضطر الورداني لأن يعمل في طفولته أعمالا عديدة: بائع ثلج، عاملا في مطبعة.. وعندما ضاقت بهم الحياة سمحت الأم لأسرة والده بأن تشاركهم في تربية الأبناء، فاضطر لأن ينتقل للعيش لدى عمته الثرية «كانت تسكن في فيلا، ولديها بيانو ومكتبة ضخمة».. ولكن هذه الأشياء أشعرته بغربة شديدة كما ان ألم الإبعاد عن الأم كان قاسيا. تغلب على هذه الآلام بالقراءة، التي أصبحت بديلا للأم، وخاصة قراءة الروايات التي «تصنع عالما من البهجة». وأصبح «الخيال» هو البديل لمواجهة عالم اضطر للانصياع له. في ما بعد تحول الولع بالقراءة إلى «ولع بالكتابة التي أصبحت السبيل الوحيد لمقاومة الجنون والإحباط الشخصي والعام. وهي أيضا محاولة للتعرف الى نفسي أو العثور عليها، كما أنها الممارسة الوحيدة للحرية وسط هذا القمع غير المسبوق الذي نعيشه» كما يقول.
ربما لهذا يبدو «الفقد» هو التيمة الأساسية المسيطرة عليه، في روايته «طعم الحريق» يبحث الراوي عن أمه التي استيقظ ذات صباح فلم يجدها في البيت، أما في «موسيقى المول» فتدور حول شخص يهبط فجأة في مدينة يراها لأول مرة.. شخص بلا ملامح في مدينة بلا ملامح ويظل يبحث عن ملامحه.. : «الفقد إحدى التجارب المستمرة في حياتي». لم يكن فقد الأب وحده، ولكن ـ كما يقول – «إننا كجيل (السبعينيات) فقدنا كل ما نحلم بتحقيقه، لذلك أكاد أتورط في القول بأن الفقدان تيمة أساسية في حياتنا العربية، ليس فقط مستواي الشخصي، ألم نفقد فلسطين والعراق وحياتنا وهويتنا».
كرنفال الورداني
كانت البداية الفعلية للكتابة في أعقاب هزيمة 67، التحق الورداني وقتها بمعهد الخدمة الاجتماعية، كما التحق شقيقه عبد العظيم بكلية الآداب، وعمل في مجلة «الإذاعة»، هناك تعرف الورداني على أصدقاء شقيقه، وكان معظمهم من الكتاب مثل خيري شلبي ويحيى الطاهر وعبد الله. عندما قرأ خيري شلبي القصة الأولى للورداني أخذها معه وقدمها في برنامج «كتابات جديدة» في الإذاعة المصرية.
وهو الأمر الذي مثل مفاجأة غير متوقعة للورداني. بعد عدة شهور قرأ قصة جديدة على أصدقائه بعنوان «كرنفال» ونصحه الأصدقاء بأن يذهب بها إلى الروائي عبد الفتاح الجمل الذي كان مشرفا على ملحق جريدة «المساء» الأدبي، وهناك لم يجد الجمل، فترك له القصة التي فوجئ بها منشورة بعد ثلاثة أيام.
كرنفال الورداني كانت «نموذجا على ما فعلته الهزيمة بنا، فلم تكن اللغة، أو أساليب السرد السابقة قادرة على استيعاب حجم الخديعة المخيفة. «كانت القصة عبارة عن مشاهد متتالية يختلط فيها التاريخ القديم بالحديث، والوقائع القديمة بالأحداث المستجدة في فوضى شديدة جدا وغضب عارم، جعل الكتابة أشبه بالمشي على جمر ملتهب».
في تلك الفترة ظهرت مجلة «جاليري 68» التي تبنت التيارات الجديدة في الكتابة «كان هناك ما يشبه الانفجار القصصي، لدرجة أن الصحف عندما تجري حوارا مع فنانة تسألها ما رأيك في ظاهرة الكتابة الجديدة؟» وهذا الأمر دعا وقتها وزير الداخلية شعراوي جمعة ليدعو إلى إقامة مؤتمر للأدباء الشبان ربما لاحتواء تلك الظاهرة، وأقيم بالفعل المؤتمر عام 1969 في مدينة الزقازيق… «كان الأمر مفاجأة للوزير وللقيادات السياسية، بدلا من احتواء الظاهرة خرجوا ببيان حاد يطالبون فيه بالإفراج عن المعتقلين السياسيين، ودعوا إلى إطلاق حرية الصحف والأحزاب..».
في تلك السنوات كان كل شيء يتنفس السياسة، ومن هنا شارك الورداني في العديد من الاعتصامات والإضرابات وكان أشهرها «مظاهرات الكعكة الحجرية» عام 1972.. وكان واحدا من الف متظاهر تم اعتقالهم. وبعد خروجه اتجه مباشرة إلى «الجبهة» لم يشارك فقط في الحرب، بل تولى بعد إعلان وقف إطلاق النار نقل جثث الشهداء من المستشفيات إلى مقابر الشهداء العسكرية.. وكانت هذه التجربة موضوع روايته الأولى «نوبة رجوع».
بعد الحرب عمل الورداني اختصاصياً اجتماعياً في إحدى المدارس، وكان يمارس الصحافة بين الحين والآخر، ولكن لأسباب سياسية تم نقله في 1977 إلى «الواحات» في الصحراء الغربية، رحلة نفي «كنت أكتب قليلا، ولكن اكتشفت منجماً من القراءات وخاصة أن مكتبات المنطقة كانت قديمة، لم تتخرب بعد، وما تضمه من أعمال كانت نادرة» هناك بدأ في التعرف على التاريخ المصري، والتراث، فقرأ «النجوم الزاهرة»، وموسوعة سليم حسن عن مصر الفرعونية، وعشرات الكتب التأسيسية التي انعكسنت في ما بعد على أعماله. تماما كما انعكست الأبعاد الكافكاوية الفانتازية في هذه الأعمال.. هل هو تأثير كافكا؟ يقول: «أحب كافكا، ولكن أحب أيضا همينغواي وفلوبير.. عندما تقرأ السير الذاتية للمعتقلين المصريين تجد أنها تجاوزت كافكا، بل إن الواقع نفسه تجاوز العالم الكفاكاوي بمراحل».
هذا يتبدى بقوة في مجموعته القصصية «الحفل الصباحي» التي تتضمن عدة قصص قائمة على المفارقات المأساوية، الأبطال يحاصرهم الخوف في كل مكان، حتى الماء سر الحياة يتحول إلى مصدر دائم للخطر حينما يغمر شقة موظف غلبان لا يستطيع الانتقال إلى مكان آخر ويتوجب عليه مقاومة تسرب الماء أول بأول حتى أنه يصبح محاصرا بفكرة وقف التسرب. إلى أن يصبح الخطر أقوى منه ويغمر الماء بعد أن تحصن في أقوى ركن ظنه، في شقته الصغيرة.
ربما كان للأمر علاقة باعتقاله مرات عديدة يضحك: «بعد المرة الأولى للاعتقال أصبحت الفكرة بالنسبة لي غير مثيرة للاهتمام، شأني شأن مئات ممن صحبوني في التجربة». ولكن بالنسبة له كان الاعتقال الأخير مختلفا.. يقول: «كنت قد ابتعدت عن السياسة بمعناها التنظيمي.. ولحسن الحظ كان معي في التجربة الأخيرة عشرات من الشباب الصغار ربما أرى بعضهم لأول مرة، في هذه المرة انفتحت عيني على حجم الغضب المتسع الذي لا يستند الى أفكار سياسية محددة بقدر ما يستند إلى غضب من الديكتارتور العجوز والقمع المستمر أمنيا». ومن هنا كانت الثورة.. والغضب المستمر.
صحيفة السفير اللبنانية