محمود الورواري يسائل الماضي مستقبلياً
في روايته الجديدة «خريف البلد الكبير» (الدار المصرية – اللبنانية)، يُضيء الإعلامي والروائي المصري محمود الورواري الواقع الراهن من خلال العودة إلى الماضي. وهذا ما يجعل لكلٍّ من الزمنين حكايته الخاصّة، وتتناوب المشاهد الروائية لكلٍّ من الحكايتين على إشغال مساحات السرد، في الشكل. أمّا في المضمون فنحن أمام حكايتين منفصلتين في الزمان والمكان والمواصفات والنوع الروائي، غير أنّهما تتقاطعان في أنّ بطل الحكاية الأولى وراويها يقوم بالاطلاع على الحكاية الثانية وقراءتها، وهذا تقاطع شكلي. ويقوم بإسقاط الماضي على الحاضر، وهذا تقاطع يتعدّى الشكل إلى البحث في وظيفة الماضي وتأثيره في الحاضر.
في حكاية الحاضر، يطالعنا صعود فرد يتحدّر من خلفية ريفية متواضعة ليشغل موقعاً ديبلوماسيّاً متقدِّماً في دولة كبرى، ومن ثمَّ عودته إلى أصوله وطبيعته الأولى نتيجة مؤثرات خارجية وداخلية. بينما في حكاية الماضي، يطالعنا صعود بلد كبير، بدءاً من مرحلة التأسيس، مروراً بمرحلة الازدهار، وصولاً إلى الانهيار بفعل تدخّل خارجي وخيانة داخلية. هكذا، نكون أمام مسارين سرديّين، فردي يعكس الوضعية العامة للدولة والمجتمع، وجماعي يصنعه الأفراد ويترك تأثيره في كلٍّ منهم. والمساران يتناوبان في الشكل، ويتقاطعان في المضمون.
في المسار الأوّل، يُسنِد الكاتب إلى بطل المسار، السفير رشدي الشيخ، مهمّة روي حكايته، لنقرأ فيها تحدّره من بيئة ريفية متواضعة، يدفعه طموحه الكبير إلى التخلّي عن طبيعته وعفويته وبراءته، واصطناع شخصية أخرى. يترك خلفه حبّه الأوّل واهتماماته المسرحية وقريته، ويتوخّى شتّى السبل للصعود بما فيها الزواج بابنة ديبلوماسي نافذ. يخرج من جلده ليتحصّن بجلود إسمنتية. يعبّر عن هذه التحوّلات المصطنعة بالقول: «كالعادة ضحّيتُ بالمسرح ضمن ما ضحّيتُ به من أجل أن أكون ما أنا عليه الآن، أكون مسجوناً في بدلة أنيقة ومنصب متحجّر، أتحدّث بما يريدونني أن أتحدّث به.
حتى رأيي الشخصي لا أستطيع البوح به ولو لابنتي…» (ص 14). هكذا، نرى كيف أن المنصب يمكن أن يمتهن إنسانية الإنسان، ويحوّله إلى مجرّد أداة متحجّرة، تغدو أسيرة الكرسي والمظاهر الفارغة المتعلقة به. وإذا كان صعود هذه الشخصية يتكشّف عن طموح مرضي وانتهازية واضحة وجوع مزمن إلى السلطة، فإنّ عودتها إلى طبيعتها تقترن بتضحيات كبرى، بينها المنصب والزوجة والشقّة الباريسية، وتتمخّض عن صفات أخرى إيجابية للشخصية.
على أنّ هذه العودة إلى الأصول تتمّ بفعل عوامل عدة، خارجية وداخلية، متزامنة، فصدور قرار بنقل السفير رشدي الشيخ إلى الإدارة المركزية، ووقوفه أمام النيل، ولقاؤه بفاطمة ابنة حبيبته الأولى التي تخلّى عنها لتحقيق طموحه الكبير، ولقاؤه بسليم زميل الدراسة الجامعية الذي يسلّمه صندوقاً خشبيّاً يحتوي على لفافات جلدية عليها كتابات قديمة، هذه العوامل كلها تدفعه إلى التخلّي عن بدلته الإسمنتية والعودة إلى رشدي القديم. ومن خلال هذا المسار الفردي، الواقعي، تطلّ الرواية على الحاضر المصري، في علاقة المواطن بالسلطة، وما يعتريها من اختلالات، بينها: استخدام الشفاعات للوصول، التقرّب من ذوي النفوذ للحصول على المواقع المتقدّمة، الهوّة الطبقية بين المسؤول والمواطن، قمع الحريات، الاعتقال التعسّفي، وغيرها…
على المسار الثاني، تشكّل اللفافات التي سلّمها سليم إلى رشدي، وأحالها الأخير إلى خبيري المخطوطات الدكتور عبد النبي الهادي والدكتور فرج البيّومي، الحكاية الثانية في الرواية. على أنّ ما يميّز هذه عن الأولى هو أنّها حكاية جماعية، متخيَّلة وليست واقعية، تجري أحداثها في زمن غير محدّد تاريخيّاً، وفي أماكن متخيّلة غير محدّدة بالاسم وإن وردت قرائن لفظية في النص تجعلنا نخمّن منطقة بعينها. غير أنّ اللافت أنّ الحكم الذي تتناوله الحكاية لا يعمّر طويلاً، فما بناه الآباء يُضيِّعه الأبناء بفعل التدخّل الخارجي والخيانة والانقسامات الداخلية. ولعلّ الكاتب أراد، من خلال هذه الحكاية، توجيه رسالة إلى الحاضر محذِّراً من مغبّة التدخّل الخارجي والانقسام الداخلي، وخطورتهما على السيادة الوطنية.
في الحكاية الثانية، نقرأ قيام الشيخ الكبير وثلاثة من أعوانه بتأسيس وطن بين البحر والصحراء في وادٍ خصيب، وتوزيع المهمات في ما بينهم، ونقل الأولاد الذكور إلى جزيرة للتدرّب على الصبر والصمود، وبناء سفينة أسطورية كبيرة، واتفاقات عدة مع شيوخ البلدان المجاورة… حتى إذا ما أخذ البلد يكبر ويزدهر، يلفت أنظار الغرباء الذين يسعون إلى بثّ الشقاق بين أبنائه تمهيداً للسيطرة عليه. فيتّخذون من هادي ابن الشيخ الكبير، وراغب ابن الشيخ داود – وكلاهما رفض الانتقال إلى الجزيرة مع الذكور الآخرين لتعلّم الصبر والصمود – مطيّتين لتحقيق أغراضهم، فيغرق هادي في «البيزنس» مع الغرباء ويبيعهم السلاح والمؤن والوقود، ويتلوّث راغب بالخيانة فيتدبّر قتل صامد، القائد المهيب، ويأتي بأصحاب المشاريع المشبوهة التي تشكّل اختراقاً للبلد، وتتفاقم الانقسامات بين أبناء البلد الواحد، وتنشب بينهم المعارك، ولا يتورّع فيها راغب عن قتل أبيه والتنكيل بأخته كي ينسب فعلته إلى الآخرين.
في غمرة ذلك، يبرز سيف ووهدان وجاسر مدافعين أشدّاء عن البلد، ويبرز راغب وهادي أداتين رخيصتين بأيدي الغرباء، ويستخدمان أساليب الدعاية المضلّلة لتلميع صورتيهما وتشويه صور الأبطال المدافعين، ويشكّلان حصان طروادة الذي يسيطر من خلاله الغرباء على البلد. غير أن الرهان على سيف الصغير في تطهير البلد منهم وإعادة إحيائه يشكّل رهاناً روائيّاً على المستقبل. هكذا، تترك الحكاية الجماعية المتخيّلة تأثيرها في الأفراد، وترسم مصائرهم القاتمة.
في العلاقة بين الحكايتين، وإذا ما استثنينا أنّ راوي الحكاية الأولى يقوم بقراءة أوراق الحكاية الثانية، يمكن القول أنّنا ازاء حكايتين منفصلتين في رواية واحدة، غير أنّ الكاتب يربط بينهما من خلال توزيع المشاهد الروائية بينهما بالتناوب، ومن خلال انشغال بطل الحكاية الأولى جزئيّاً بتطوّرات الحكاية الثانية، الأمر الذي ينسحب على القارئ، فيغدو موزّعاً بين الحكايتين ومهتمّاً بما ستؤول إليه كلٌّ منهما. وعليه، تقوم العلاقة بين الحكايتين على: التوازي، والتعاقب، والتداخل، والانفصال، والاتصال، والإسقاط… أي أنّنا إزاء شبكة علائقية معقّدة.
يستخدم الورواري تقنية تعدّد الرواة، وتنوّع صيغ الروي، فيُسند حكي الوقائع الحاضرة إلى راوٍ مشاركٍ هو بطل الحكاية الذي يروي بصيغة المتكلّم، ويُسند حكي الماضي الأسطوري الغرائبي إلى راوٍ عليم، فيفعل ذلك بصيغة الغائب في جميع اللفافات، ما عدا الأولى. وهو يصطنع مساراً متسلسلاً في الحكاية الأولى، وآخر متقطّعاً في الحكاية الثانية، ويراعي خطية الزمن في المسارين.
بلغة سردية بسيطة، جميلة، تتّكئ على الجمل القصيرة والمتوسّطة، وتتجنّب تلك الطويلة المترهّلة، يصوغ الكاتب نصّه، فيجمع بين متعة السرد وجمال اللغة، ويوفّر لخطابه السلاسة السردية التي تقطعها حوارات رشيقة تراعي التوازن بين المعنى والمبنى، وتبتعد من الخطابة والوعظ والأيديولوجيا.
بهذه المواصفات، يقدّم محمود الورواري رواية مستوفية شروط النوع الروائي، وينتقل بنا بين حكائية الماضي، وواقعية الحاضر، ومتعة السرد، ورشاقة الحوار،
وجمال اللغة، فنعود من القراءة بغنيمتي المتعة والفائدة.
صحيفة الحياة