محمود خيرالله: رحلة الخمر من التقديس إلى التحريم
مثل الكيميائي في معمله؛ يتفحص الشاعر والصحافي المصري محمود خيرالله قطرة خمر تحت المجهر، لكنه لا يبحث عن تركيبها الكيميائي، بل عما تحويه من حيوات وحكايات ربما تجعلنا ننظر بشكل مختلف إلى تاريخنا العربي. رحلة خاضها في كتب التاريخ والأدب والأمثال الشعبية والنوادر؛ ثم وثّقها في كتابه «مزاج الباشا… تطور ثقافة الخمور في مصر» (دار صفصافة ـ القاهرة) كـ «محاولة لاكتشاف الوجه الروحي الرحيم غير الدموي من تاريخ البشر». كتاب يعتبر امتداداً لدراسته السابقة حول تطور ثقافة الخمور في القرن العشرين بعنوان «بارات مصر… قيام وانهيار دولة الأنس» (2016).
في مقدمة الكتاب الجديد (رحلة الخمر المقدسة إلى التحريم)؛ يوضح خيرالله أن سبب اختيار «مزاج الباشا» عنواناً لرحلته في تاريخ الخمور كونها عبارة «تعكس التصنيف الشعبي الدارج لشارب الخمر في قمة هرم مجتمع الشاربين، حيث يقبع في قاع هذا المجتمع من يتعاطون أنواعاً معينة من المخدرات ويطلق على ما يتعاطونه «مزاج البوابين». الأمر الذي يشير ربما إلى قناعة قديمة وراسخة باحترام الخمور في الثقافة الشعبية». أما عن هدف قراءته في تاريخ الخمر، فيقول: «لأثبت أن الماضي كان يحتوي على كل أنواع الفجور مثلما كان يحتوي على الإيمان والورع والزهد… واستدعاء لروح التسامح التي عاشها الإنسان عبر العصور، بدءاً من مرحلة «ما قبل الهوية الدينية» واستمرت إلى مرحلة الأديان وما بعدها».
عبر تسعة فصول، رسم خيرالله ما يشبه خريطة سارت فيها أنهار الخمور، بدءاً من تقديسها في مصر القديمة كشراب للآلهة. ثم يأخذنا في رحلة عارضة إلى شبه الجزيرة العربية حيث يستكشف كيف تعامل العرب مع الخمور قبل الإسلام. لكنه يرجع مرة أخرى إلى القاهرة في الفصل الرابع المعنون «العرب والنبيذ معاً في مصر». في العصر العثماني والمملوكي؛ تباين التعامل مع الخمور بين الإباحة والتحريم، فيما صار للبارات في ظلّ الحملة الفرنسية، دور سياسي كان وراء انفجار «ثورة عرابي» (1879-1882).
ينطلق الكاتب في الفصل الأول (إله لنبيذ.. ربة الجعة: تقديس الخمور في مصر القديمة) من اكتشاف معمل صناعة البيرة داخل معبد نفرتيتي في الأقصر عام 1991، ونقل إحدى رسائل النساء في مصر القديمة عام 253 ق.م دليلاً على انتشار البيرة في مصر قبل الميلاد كمشروب شعبي متداول. إذ تشكو صاحبة الرسالة التي تدعى هاينيخيس من أنها «كانت تدير حانوتاً لبيع الخمور التي تجلبها من المخزن الكبير وتبيع بقيمة 4 درخمات بيرة يومياً قبل أن يخدع أحدهم ابنتها الشابة ويأخذها معه بينما كانت الابنة تساعد أمها في إدارة الحانوت»، فضلاً عن ارتباط ذلك المشروب ببناء أول كيان حكومي منظم على الأرض وكونه شريكاً أساسياً لبناة الأهرامات في مهمتهم الثقيلة.
الخمور في مصر القديمة لم تقتصر على الجعة/ البيرة؛ إذ كانت صناعة النبيذ سائدة في مصر منذ سنة 3000 ق.م تقريباً. وبينما كان الإله أوزوريس يشرب أول كأس من النبيذ بينما يسن القوانين للبشر؛ عرف عن الإلهة حتحور لجوؤها لشرب الخمر للسيطرة على غضبها. هكذا عبر الكثير من التراتيل والنقوش، نرى كيف أنّ الخمر كان مصاحباً للملوك في أروقة الحكم والشعب في حياته اليومية.
ومن مصر القديمة إلى شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، يرى خيرالله أن «الطريقة المثلى لمواجهة التفكير السلفي السائد في الذهنية العربية، هي الهجوم على هذا التفكير في عقر داره». لذلك، يتوقف عند بعض الوقائع في كتب الرواة العرب منها: «بيع مفاتيح الكعبة بزق خمر» وهي الواقعة التي قال فيها الشاعر العربي: «باعت خُزاعةُ بيتَ الله إذ سكرت… بزقِّ خمرِ فبئست صفقة البادي»، فضلاً عن الحكاية الشهيرة عن «سرقة غزال الكعبة الذهبي» وشراء خمر بثمنه. وينقل عن سليمان حريتاني صاحب كتاب «الخمرة وظاهرة انتشار الحانات ومجالس الشراب في المجتمع العربي الإسلامي»، أن «الخمور والحانات ومجالس الشراب في شبه الجزيرة العربية انتقلت من مرحلة «قبل ظهور الإسلام» إلى مرحلة صدر الإسلام بمنتهى البساطة والتلقائية».
بالعودة إلى مصر؛ يلاحظ الكاتب مفارقة هامة هي أن الفتوحات الإسلامية لمصر والشام كانت أحد الأسباب الرئيسية لتطور وانتشار صناعة الخمور، مدللاً على ذلك بالقصائد العربية الشهيرة المسماة «الخمريات»، وما كتبه الجاحظ في العصر العباسي (رسالة الجاحظ إلى الحسن بن وهب في مدح النبيذ وصفة أصحابه)، وأيضاً كتاب «الأغاني» لأبي فرج الأصفهاني، وكتاب فيروز آبادي (الجليس الأنيس في أسماء الخندريس) الذي تضمن ألف اسم عربي للخمر وألف بيت شعر في مدح الخمر، فضلاً عن كتاب «قطب السرور في أوصاف الأنبذة والخمور» لابن الرقيق القيرواني، وغيرها من الكتب والمرويات التي تفاعلت مع الطفرة التي شهدتها صناعة الخمور في ظل الحكم الإسلامي.
في عهد الدولة المملوكية، نتوقف عند فترة حكم السلطان الملك الكامل سيف الدين شعبان بن الناصر محمد بن قلاوون، الذي يطلق عليه الكاتب تسمية «ملك الحريات». إذ إنّ سيف الدين حوّل «خزانة البنود» إلى حانة كبيرة، بل إلى مركز لعصر وبيع الخمر. لكنها كانت فترة موقتة، إذ تعرضت تلك الخزانة للهدم بسبب تأثيرها الكبير في المنافسين. يشير المقريزي إلى أن يوم هدمها «من الأيام المشهورة المذكورة عدل هدمها فتح طرابلس وعكا».
استمر اضطراب العلاقة مع الخمر في العصر العثماني. بالتزامن مع استهداف الولاة العثمانيين لحريات الناس وقطع أرزاقهم، استطاعت مصر أن تنتج مشروب «البوظة» المصنوع محلياً في اللحظة نفسها التي كانت تقاوم فيها السلطة العثمانية.
في المقابل، وُصف الخمر في القوانين العثمانية بـ«المحرمات»، لكن خزائن قصور الطبقة الحاكمة لم تكن تعرف سوى الأنواع الفاخرة والمعتقة منه، ما يراه الكاتب دليلاً على تحريم الخمور على العامة فقط، مشيراً إلى الحكاية المتداولة عن موت السلطان سليمان القانوني من فرط شرب الخمور، فضلاً عن استحداث السلطة العثمانية ضريبة باسم «أمانة مقاطعة الخمر» بعد انتشار الخمر في أوساط الأغنياء والأجانب. أما غير المسلمين، فقد سمح لهم القانون بفتح بارات في بعض أحياء القاهرة.
لم يتنازل المصريون عن حريتهم بالحصول على «مزاجهم». إذ صاحب الحكم العثماني انتشار الكثير من المقاهي التي أصبحت وسيلة جديدة لاجتماع المصريين وتواصلهم الاجتماعي. وفي الوقت نفسه، تحول الكثير منها إلى «محاشش» (أماكن لتدخين الحشيش) بدلاً من الخمر الذي حرمه العثمانيّون على الفقراء. لكن ذلك الانحراف عن الخمور في مزاج المصريين، لم يستمر طويلاً، إذ جاء محمد علي باشا ليجرّم الحشيش وينظم عمل «الخمامير» وفق نظام ضرائب دقيق. وفي عهده عملت أكثر من 10 مصانع لتقطير وإنتاج الخمور.
اهتم المصريون في هذه الفترة بالحشيش على حساب الخمور. لكن بعض البسطاء وجدوا طريقهم مرة أخرى للرخيص من «الخمامير» في عهد محمد علي. كما كان جنود جيشه يشربون الخمور ويمارسون الدعارة وفقاً للقانون داخل وحداتهم وخلال حملاتهم العسكرية. هكذا بنى الباشا دولته الحديثة بتوفير مساحة كبيرة من الحرية في شرب الخمر والحصول على المتعة. وقد مثّل الخمر أحد أهم موارد الضرائب لتحقيق أهدافه الاستعمارية.
مع دخول الحملة الفرنسية (1798- 1801) مصر، وفي ظل «الحلم» الفرنسي بتحويل مصر إلى باريس الشرق والبقاء مدة أطول، توقف الكتاب عند تحول «الخمامير» إلى «بارات»، وهو ما سبقه منع تناول المخدرات والحشيش في المقاهي والأماكن العامة، استعداداً لافتتاح أول بار أوروبي في مصر هو «بار المشهد الحسيني»، وتوسيع السلطات الفرنسية إنتاجها من الخمور محلياً. وما يؤكده الجبرتي في كتابه «مظهر التقديس بذهاب دولة الفرنسيس» أنه حين دخلت الحملة الفرنسية إلى مصر، وجدت تجارة الخمور شبه منظمة.
وباعتبار أن الخمور كانت طريقة المصريين طوال تاريخهم لـ«اقتناص لحظات المتعة»، فقد كانت في العصرين المملوكي والعثماني موجودة على هامش أنشطة الدعارة والبغاء التي تجبي منها الدولة ضرائبها. أما التحول الفرنسي، فقد جعل البارات مستقلة عن بيوت البغاء، تلك كانت النواة الأولى ليصبح لها دور سياسي في أحداث ثورة عرابي.
خلال ثورة عرابي، اتخذ التاريخ «الروحي» للخمر منعطفاً دموياً، خصوصاً خلال المعارك التي شهدتها البارات كونها أصبحت «مسرحاً للعمليات السياسية». يذكر الكتاب إحدى أهم معارك الثورة، التي شهدتها الإسكندرية، قبل نحو شهر من هجوم الأسطول البريطاني عليها وقصفها في تموز (يوليو) 1882. أطلقت الصحف وقتها على هذه المعركة تسمية «مقتلة الأحد الدامي». وكان مسرحها مجموعة من البارات والمقاهي حيث سالت الكثير من دماء المصريين والأجانب، وتطوَّرت الأمور إلى مقتلة عامة في الشوارع.
تقودنا فصول الكتاب إلى أن حق الناس بتناول الخمور قد يكون مؤشراً حقيقياً على مدى نهوض الدولة، مثلما حدث في مصر القديمة وبناء الأهرامات. وفي بداية القرن الـ19 جاء تأسيس جيش محمد على باشا دليلاً آخر على ذلك.