محمود درويش… «المراثي» تبعثُ الغائبين (خليل صويلح)
خليل صويلح
غسان كنفاني، ومعين بسيسو، وناجي العلي، وإميل حبيبي، وإدوارد سعيد، وأمل دنقل، وممدوح عدوان ومحمد الماغوط، ونزار قباني، وسمير قصير، وجوزف سماحة… كان صاحب «لا تعتذر عمّا فعلت» شاهداً مفجوعاً على رحيل أصدقائه. في «محمود درويش يكسر إطار الصورة ويذهب ـــ المراثي» (دار كنعان – دمشق)، يجمع سمير الزبن مراثي الشاعر الراحل بما يشبه أنطولوجيا للموتى
في مراثيه المبكّرة للآخرين، يبدو محمود درويش (1941ــ 2008) كأنّه يؤجل موته الشخصي عن طريق «اختراع الأمل»، إلى أن حاوره الموت عن كثب، فكتب مرثيته بنفسه في «جدارية». كان صاحب «لا تعتذر عمّا فعلت» شاهداً مفجوعاً على رحيل أصدقائه، وهو يرى الموت يخطفهم واحداً تلو الآخر، من غسان كنفاني، ومعين بسيسو، مروراً بناجي العلي وإميل حبيبي، إلى سمير قصير وإدوارد سعيد.
في كتابه «محمود درويش يكسر إطار الصورة ويذهب ــــ المراثي» (دار كنعان ـــ دمشق)، يجمع سمير الزبن مراثي الشاعر الراحل بما يشبه أنطولوجيا للموتى، مشيراً إلى قدرته على ترويض الموت وخداعه، سواء في جداريته، أم في كتابه «في حضرة الغياب»، إذ يتنبأ الشاعر قائلاً «فلأذهبْ إلى موعدي، فور عثوري على قبر لا ينازعني عليه غيرُ أسلافي، بشاهدةٍ من رخامٍ لا يعنيني»، وفي مناسبة أخرى «يوقدون الشمع لك/ فافرح، بأقصى ما استطعت من الهدوء/ لأن موتاً طائشاً ضلّ الطريق إليك/ من فرط الزحام… وأجّلك».
من جهته، يوضح سعيد البرغوثي في تقديمه للكتاب بقوله «وفي ذروة اشتباكه المحتدم مع الزمن، أدرك محمود درويش أنّ الموت لصّ يسطو على الذاكرة، على ذاكرتنا باقتطاع الآخرين منها واحداً واحداً، فاستبسل في ترميم حائطها، وأودع في مراثيه ما يجعل الموت خائباً، كثيراً أو قليلاً، أمامها». ليست مراثي محمود درويش النثرية أو الشعرية بكائيات أو نواحاً، إنما هي نصوص نقدية يتعانق في متنها، الشخصي بالعام، تتساوى فيها الفجيعة بالبلاغة العالية، كما لو أنها تمرينات أوليّة على الغياب، فالموت، وفقاً لما يقوله «واقع لا ينجو منه الفلسطيني، ولا يملك إزاءه اختياراً، ولكن بوسعه أن يختار طريقته الخاصة في الموت». هكذا يرثي غسان كنفاني أولاً، من موقع مضاد للفقدان «إن شراهة الحياة تجعله كالعاصفة.. مندفعاً ومتفجّراً على الدوام»، فيما تحتدم نبرته الغاضبة أكثر في رثاء معين بسيسو «ليس لاندفاع هذه الخيول إلى هذه الهاوية – الجنة من موروث. لذلك كان البطلُ فينا، لا البطل التراجيدي، هو مَنْ يقوى على مواصلة حلم مُسيَّج ببنادق الأعداء، الذين تعددت أسماؤهم، واختلطت لتُعمِّق حاسَّة الفلسطيني بأنه وحيد على هذه الأرض». اغتيال ناجي العلي وضعه أمام محنة أخرى، فكان عليه أن يوضح مرجعيات خلافهما المزعوم، قبل أن يعلن فجيعته الشخصية برسام الكاريكاتور الفلسطيني «سقطت من قلبي أوراق الأغاني لتسكنه العتمة، الاختناق في الحواس كلها، لا لأن صديقاً آخر، صديقاً مبدعاً، يمضي بلا وداع فقط، بل لأنّ حياتنا صارت مفتوحة للاستباحة المطلقة، ولأن في وسع الأعداء أن يديروا حوار الخلاف بيننا إلى الحدود التي يريدونها ليعطوا للقتيل صورة القاتل التي يرسمونها وليتحوّل القتلة إلى مشاهدين».
هكذا كانت قائمة الغائبين تكبر سنةً وراء الأخرى، وكان على الشاعر أن يحصي خسائره ما بين الداخل والمنفى. هذه المرّة سيُفجع برحيل توفيق زيّاد، وسيكتب «كان يقود قطيع أحلامه المشتت إلى مرعاه المحاصر بالجفاف، ولكن حفنة من الحلم في قبضة يده كانت كافية لأن يغمض عينيه على ختام النشيد الدامي.. نشيده الطويل». سيتوقف مرّة جديدة أمام حدث جنائزي آخر، يخص قامة استثنائية ومعلماً كبيراً، هو إميل حبيبي، وسيرثي «المتشائل» بما يليق بمنجزه الفذ «أنت الرواية المفتوحة على الجهات كلّها والمفارقات كلّها والأسئلة كلّها ما عدا سؤالاً واحداً: هل انتصار الإطار هو هزيمة المعنى، وهل هزيمة الأداة هي موت الفكرة؟». في وداع إدوارد سعيد، لن يكتفي صاحب «لماذا تركت الحصان وحيداً» بمرثية واحدة، ذلك أنّ هذا المفكر الفلسطيني الموسوعي «وضع فلسطين في قلب العالم، ووضع العالم في قلب فلسطين»، فعاد وكتب عنه قصيدة طويلة بعنوان «طباق». وسوف يتأمّل ملياً جثمان جورج حبش، الأيقونة الفلسطينية التي تصيب كل من حولها «بعدوى الأمل من فرط ما هو صادق وشفّاف»، لتصل التراجيديا الفلسطينية إلى ذروتها برحيل ياسر عرفات الذي «من فرط ما ناوش الموت ونجا، امتلأ لاوعيٌ فلسطيني خرافي بشعور ما بأنّ عرفات قد لا يموت! وهكذا لامَسَت أسطورته حدود الميتافيزيقيا». ما أن يغلق دفتر المراثي على خريطة فلسطين الممزّقة، حتى يجد «مالك بن الريب الفلسطيني» مكمناً آخر للفجيعة. ها هو يرثي نزار قباني قائلاً «في عذوبته قسوة الحرير على زبيب الصدر الغضّ. وفي قسوته عذوبة انتحار الأنهار في البحر. عاشق الثُّنائيات الحادة والألوان الساطعة. بَرِم بالرماديّ وشروط الهدنة، وبجنوح الشعر إلى الخروج من الحسيّ إلى المجرد». ثم يعود إلى دمشق مرّة أخرى لرثاء ممدوح عدوان مشبهاً إياه بعازف «يحتار في أيّة آلة موسيقية يتلألأ» ثم يخاطبه «لم أقل لك إن واحداً منك يكفي لتكون عشيرة نحل تمنح العسل السوري مذاق المتعة الحارق؟».
ويطوف حول كعبة محمد الماغوط الشعرية المتفرّدة بقوله «سرّ الماغوط هو سرّ الموهبة الفطرية. لقد عثر على كنوز الشعر في طين الحياة. جعل من تجربته في السجن تجربة وجودية. وصاغ من قسوة البؤس والحرمان جماليات شعرية، وآلية دفاع شعري عن الحياة في وجه ما يجعلها عبئاً على الأحياء، وهو الآن في غيابه، أقل موتاً منّا، وأكثر منّا حياة!». وينهي مراثيه بوقفة عند قبر جوزف سماحة: «كل شيء فيه كان معدّاً لحبّ الحياة بفجورها وتقواها: قوة حصان لم يمرض. وبسالة فارس لم يترجّل، وأَملٌ جَشِعٌ لا يتوقّف عن الثرثرة. وبصيرة مثقف لا يؤجِّل كلمة اليوم إلى الغد. مناضل وبوهيمي. صديقُ الوحيدات في الليل، ورفيق العاطلين من العمل والبهجة. حيويّ ذكي يبحث عن الاختلاف في كل شيء، وعن الخصومة على كل شيء، لأن الإجماع من صفات القطيع».
________________________________________
قصيدة إلى الوالد
يفتتح محمود درويش مراثيه الشعرية بقصيدة إلى والده، ضمّنها ديوانه الأول (أوراق الزيتون/ 1964)، كما أهدى قصيدته «الرجل ذو الظل الأخضر» إلى ذكرى جمال عبد الناصر (حبيبتي تنهض من موتها/1970)، وتوقّف عند رفاقه الثلاثة أبو يوسف النجار، وكمال عدوان، وكمال ناصر في مرثية «طوبى لشيء لم يصل»، ثم راشد حسين في «كان ما سوف يكون» (أعراس/ 1977)، لتكرّ السبحة مع شهداء فلسطين مثل عز الدين القلق، وماجد أبو شرار (حصار لمدائح البحر/ 1984)، وإميل حبيبي (لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي/ 2009). وسيستعيد صورة خليل حاوي في «الشاعر افتضحت قصيدته» (مديح الظل العالي/ 1983)، وأمل دنقل (لا تعتذر عمّا فعلت/ 2004)، وانتهاءً برثاء إدوارد سعيد (الصورة) في «طباق» (كزهر اللوز أو أبعد/ 2006).
صحيفة الحياة اللندنية