محمود درويش ناقدا
الشاعر الراحل كان يرى أن الرواية قادرة على أن تستوعب كل أشكال المعرفة والثقافة والمشاكل والهموم والتجارب الحياتية.
تحل ذكرى رحيل محمود درويش، مخلفا فراغا كبيرا وكلاما كثيرا بين مؤيد ومعارض، محب وناقم، معظّم ومحقر، بسبب مواقفه المختلفة ونصوصه الجذابة، وكثيرون تحدثوا عن محمود درويش الشاعر والإنسان والسياسي والأيديولوجي، ولكن القليل من تحدثوا عنه كناقد، ومن هنا كان تركيزنا على هذه النقطة لديه.
ودرويش يرى أن القصيدة الجيدة هي القصيدة الإنسانية، وهي التي تخلق جوا من الذهول الذي يحبه الشاعر في مستمعيه، وقد يفهمها المستمعون أو لا يفهمونها دفعة واحدة، ولكنهم يعيشون جوها ويفكرون بها.
ويرى أن على الشاعر أن يوازن بين حاجتين ماستين: دراسة الآداب العالمية وقمم الكلاسيك العالمي، وملاحقة التيارات الأدبية والفنية المعاصرة في العالم، مشيرا إلى مبدأ من أهم مبادئ الإبداع، تقاس به شاعرية الشاعر الحديث، وهو مبدأ تطويع اللغة لنقل نبض العصر وروح الإنسان الحديث وتمثل اللحظة المعيشة، فاللغة تراثية بطبيعتها، اللغة وضعها الأقدمون، اللغة منحازة لأسمائها القديمة وشعرائها القدامى، وحياتها الأولى كما تبينها المعاجم وكتب التراث، ودور الشاعر أن ينقل اللغة نقلة حديثة نشعر فيها بمتعة اللغة ومن ثم بمتعة الشعر، نقلة تتمثل أبعاد الواقع، وتفاعل الروح الحديثة مع هذا الواقع، ورؤية الإنسان الحديث، ومن ثم صنع مذاق جديد لا يقل متعة عن مذاق اللغة الشعرية القديمة، وهذا هو ما نعنيه بمبدأ التطويع اللغوي.
أما عن الرواية فيعتبرها درويش قادرة على أن تستوعب كل أشكال المعرفة والثقافة والمشاكل والهموم والتجارب الحياتية، وفي هذا متعتها وعناؤها معاً، فالأديب يحاول أن يشيد العالم في كلمات لكن ليس صحيحاً – فيما نرى – قول درويش: “والجميل في الرواية أنها غير عرضة للأزمات، ذلك أن في كل كائن بشري رواية وهذا ما يكفي لملايين السنين”، ذلك أن الرواية ليست مجرد سرد أو عرض، إنها بناء فني وأداء جمالي له أدواته الخاصة ومعمله الخاص، ولا تسمى الرواية رواية إلا بتصميم هذا البناء الفني، وبتحقيق هذا الجمال الأدائي، فليس الأمر مجانيا ولا عشوائيا، والمقارنة بين الشعر والرواية بل بين الأجناس الأدبية وبعضها بعضا يحتاج إلى أكثر من هذا، ولكننا مرتبطون بما يقوله درويش.
ومن أطرف ما قرأته في ذلك ملاحظة الناقد الأميركي والاس مارتن في كتابه “نظريات السرد الحديثة” من أن تحليل قصيدة قد يأخذ حجم رواية، بينما التعليق على رواية طويلة قد يأخذ حجم قصيدة.
أما عما يعرف بالشعر الصافي، فيقول درويش عن هذا المصطلح: “الشعر الصافي مفهوم يسعى أي شاعر لتحقيقه الشعر الصافي يعني التحرر من عبء التاريخ ومن عبء الواقع، هذه عملية مستحيلة، فالإنسان لا يستطيع أن يتحرر من ضغط التاريخ والواقع، ولكن عليه أن يسعى لذلك، ليحرر شعره من آثار راهن يزول، لكي يبحث عن الجوهر وعن العمق. هذا غير موجود، ولكن علينا أن نحاول ونصدق أنه موجود، لكي نبحث عن الشعر المستحيل”.
ويؤكد درويش في هذا الصدد على أن الشعر الصافي لا يمكن أن نتصوره نثريا أو بلا إيقاع، فبمقدار ابتعاد الشعر عن الإيقاع والطرب والصورة الشعرية يهتز صفاؤه ويتكدر، مهما تكلمنا عن بلاغة النثر وبلاغة الإيقاع غير المطرب، الإيقاع المجافي الذي توفره لنا بعض الأنواع من الكتابات الحديثة.
أما حين يتحدث درويش عن الأشكال الشعرية، يرى أن هناك تزاوج أو لقاحا بين النثر والشعر، وأن هناك جنسا أدبيا اسمه نثر، وجنسا آخر اسمه شعر، وفي هذا الجنس هناك القصيدة الموزونة، وهناك أيضا قصيدة النثر، والنثر كجنس أمر آخر.
ويضيف: “لكن النقاش الدائر حول أن مستقبل الشعر والحداثة الشعرية العربية لا يعرّفان إلا في قصيدة النثر، فهذا كما أعتقد إجحاف حقا، هذا استبداد فكري، وكذلك أن الموسيقى الداخلية لا تأتي إلا من النثر. أعتقد أن علينا أن نرفع الحدود بين كل هذه الخيارات الشعرية؛ لأن المشهد الشعري العربي الحقيقي لا يمكن النظر إليه إلا من زاوية المصالحة بين كل الخيارات الشعرية ليس من حل نهائي لمسألة الشعر، فالشعر غامض ولا محدود، وتبلغ لا محدوديته حداً أننا لا نعرف إزاءه أي كتابة هي الأصح. الكتابة الصحيحة في رأيي هي أن نجرب وأن نسعى إلى أن نخطئ، لأننا من دون أن نرتكب أخطاء لا نستطيع أن نتطور، لذلك أفضّل دائما التجريب غير المضمون النتائج على تقليد مضمون النتائج، وفي رأيي أيضا أن لا شعر من دون مغامرة”.
هذا يعني اعتراف درويش بالأشكال الشعرية، أو التي تنتسب إلى الشعر جميعاً، وإن لم يكتب قصيدة النثر، واكتفى بأن يطلق على ما كتبه من نثر فني مصطلح “نص”.
كما أنه يصحح بعض المفاهيم النقدية الإبداعية الشائعة التي تريد احتكار مسألة الموسيقى الداخلية من خلال قصيدة النثر، ولكنه يؤيد المغامرة والتجريب والوقوع في الأخطاء والاستفادة منها، وهذا يعني في التحليل الأخير أن درويش يدعونا إلى أن نترك كل الأشكال تتنفس، وأن نترك الزمن يحكم عليها أيها شعر وأيها ليس بشعر، وهذا رأي صواب، وهو يعني المنافسة الشريفة بين أصحاب كل شكل لتمثل مفهوم الشعر فيما يكتبونه، ولو فهمنا المسألة على هذا النحو لكسبنا جميعا إبداعا راقيا متنوعا سواء أكان شعرا أم ليس بشعر، فالإبداع يتسع لفنون كثيرة تستطيع أن تشق مجراها إلى قلب المتلقي، المهم أن تتحقق فيها شروط الفن، وأن يكون لدينا مفهوم صحيح للإبداع، ثم منظور شامل لهذا الإبداع في علاقته بالإنسان والمجتمع والكون، والمحصلة النهائية أن كل الأشكال يمكن أن تتعايش، شريطة أن تكون فنا دون تنازل عن هذا الشرط، وشريطة أن يكون وراء الفن موهبة جديرة بالاحترام، وليس بالضرورة أن يقتل شكل شكلا آخر ليثبت ذاته، المشكلة أننا لا نريد أن نتعايش بل نريد احتكار المفاهيم والأشكال والنظريات، المشكلة أننا لم نصل بعد إلى صيغة حضارية للحوار، سواء بين الأفراد أو النصوص.
ميدل ايست أونلاين