محمود درويش وسعدي يوسف وسليم بركات: نافذة تطلّ على رصاص البحر

استعادةُ الحرب أدبيَّاً، يعطي البعد الأكبر لمعاني تلك الحرب من وجهةٍ إنسانيَّة. كلماتٌ كُتبت ورواياتٌ ألّفت حول تلك الفترة كمحاولةٍ للتأريخ أو ربمّا إيجاد بدائل رحيمة للتعبير عن القسوة، طالما أن لا رادّ لتلك الحرب، الدم إذ يتحوّل إلى كتلٍ كتابيَّة رؤومة. الحربُ إذ تغدو منارةً للنهضة وسبباً من أسباب إعادة النظر في كلّ المفاهيم. على الرغم من التناقض الفجّ في الفكرة، إلّا أنّها الحقيقة. الماضي يتجدّد الآن، إنّما بطريقةٍ مختلفة وأشدّ فظاعة. العالمُ يعيشُ تحت سقف التكرار لكن بصورٍ متباينة.

«إنهم يحصدون بعضهم في الشمال، ويحصدون بعضهم في الجنوب، ويحصدون بعضهم في الجبال، ويحصدون بعضهم في المدن».
وديع سعادة (بسبب غيمةٍ على الأرجح ـــ 1992)

«في العام 1979، كنّـا في بيروت ، بين أضلاع ما سُـمِّيَ الكيلومترَ الأخير، وقد تأكّدَ أنه أخيرٌ، بعد أن طردتنا دباباتُ آرييل شارون في صيف 1982 وخريفها، فلم نجدْ، بَعدها، أرضاً ثابتةً ثباتَ ذلك الكيلومتر المربع الأخير، كنتُ أعرفُ أن سليم بركات مقيمٌ مثلنا، في الفاكهاني، سألتُ عن مَـظانِّهِ، وعرفت عنوانه، دخلتُ المبنى، وتوجّهتُ إلى باب المسكن، ضغطتُ الزرَّ، مضت دقائقُ، حتى لقد خِلْـتُ أنني أخطأتُ المقصدَ… البابُ يوارَبُ بطيئاً، ومن الفتحة بين الباب والجدار تظهر فوّهةُ مسدسٍ، تتلوها «سبطانةٌ» كأنها لطولها وشناعتها سبطانةُ بندقيةٍ،

– من؟

ـ أنا سعدي يوسف، يا سليم بركات… أرجوكَ اخفضْ فوّهةَ المسدس».

عن اللقاء في زمن الحرب، هكذا دوّن وتذكّر الشاعر العراقي سعدي يوسف (1934) ذات مرّة مستحضراً الحرب الأهليَّة اللبنانيَّة والحصار على بيروت وبحثه عن الشاعر السوري سليم بركات (1951) الذي هام على وجهه هارباً من سوريا إلى بيروت… الأخيرة التي كانت ملجأ كلِّ هاربٍ من بطش الأنظمة العربيَّة. وأدونيس (1930) كذلك أشار في حوارٍ له إلى أنّه عايش تلك الحرب بكاملها حتى عام 1983، مؤكّداً أنّها لم تكن «حرباً، كانت فتكاً ونهشاً ونهباً ووحشيَّة». الشاعر إذ يدوّن الفكرة معبّراً عن فظائع الحرب كخطيئةٍ بشريَّة مستمرّة إلى اللا نهاية، من دون أن يكون بمقدوره أن يردّ هذه الحرب. فقط إنّه يراقب ويدوّن ما يمكن أن يكون في القادم من الأيَّام شكلاً أدبيَّاً يمكن الاتّكاء عليه ـ عوضاً عن الصورة- للاستدلال على الرّهبةِ في الاستذكار.

إذن الأمر في بالغ الصعوبة أن يجايل شاعرٌ ما حرباً. وهنا في موضوع الحرب الأهليَّة اللبنانيَّة، ثمّة شعراء باتوا الآن رموزاً، عايشوا تلك الحرب في بيروت، شعراء باتوا يبتعدون عن تذكّر تلك الأيَّام الوحشيَّة، ولو مرور الكرام أو تلميحاً إلا بالنذر اليسير، كسليم بركات الذي خصص لتلك الحرب كتاباً يومياتياً كاملاً سمّاه «كنيسة المحارب» («كنيسة المحارب ــ اليوميات الصغيرة لحرب الجبل» (منشورات فلسطين الثورة ــ 1976). كتاب منع تداول اسمه في بلده سوريا، بالإضافة إلى الشاعر محمود درويش (1941 ــ 2008) الذي أعطى لنصّه مهابة الحصار وخراب بيروت.

شعراء من مختلف الدول العربية عايشوا تلك الحرب في بيروت وكتبوا عنها، لكن ربمّا لكثرة الحروب العربيَّة، تمّ إدراج تلك الكتابة من دون قصد في عالم النسيان. الشعراء تكلّموا فيما بعد عنها اقتضاباً وتوريةً كابتعادِ ربمّا عن «أهوال الحرب» وما تفعله بالذاكرة، فيما ارتأى بعضهم أن يتحدّث عنها شعراً أو نثراً أو رواية، لتنشط بعد ذلك الذكريات إثر كلّ ذكرى لتلك الحرب المركّبة والمعقّدة التي سمّيت الحرب الأهليَّة اللبنانية، الدالّة الفارقة ما بين زمنٍ وآخر.

الحربُ إذ تجمع

في بيروت فقط تحقّق هذا الأمر: أن تجمع حربٌ شعراء من مختلف البلدان العربيَّة، هؤلاء الذين لاذوا بالفرار من بطش الأنظمة، من العراق وسوريا على وجه الخصوص، ليلقوا أنفسهم محاصرين في مكانٍ يشعرون بالانتماء إليه. مكانٌ آواهم، ومن الواجب الدفاع عنه أو الكتابة في محاولةٍ للتهدئة. وهذا ما فعله الروائي والشاعر السوريّ سليم بركات، الذي انطلق من بيروت العاصمة في زمن الحرب، لينحت بلغته ما جاء في الحرب من أسى، حوّلته الحرب إلى شخصٍ أحسّ باشتراكه في «حربٍ أهليَّة» ربمّا يعرف عنها الكثير ولكن لم يدوّن عن ذلك إلّا القليل كما أشار أكثر من مرّة، لا لضيق الوقت أو انعدام الفرصة، إنّما لأنّ الحرب تلك تحتاج إلى مجلداتٍ. فقط دوّن الإحساس اليوميّ، وشاركه في ذلك العديد من الشعراء كمحمود درويش وسعدي يوسف وأدونيس وغيرهم من الحاضرين آنذاك، هؤلاء الذين شكّلت حواراتهم وكتاباتهم النثريَّة عن الحرب فيما بعد مرجعاً أساسيَّاً للقرّاء لمعرفة الحراك الثقافي في أوج استعار نيران الحرب. الحربُ إذ تجمع كلّ شيء، كتابةً وإحساساً باللا مألوف القادم خلل الحربِ ذاتها.

محمود درويش أيضاً عاش التجربة الناريَّة للحرب الأهليَّة اللبنانية وأيَّام الحصار المروعة، وباتت بيروت محور قصائده في زمنٍ معيَّن، كأنّ الحرب حربهم، هؤلاء الغرباء الذين طُردوا من بلادهم والتقفتهم بيروت لتصنع أسرارهم الكتابيَّة وتحثّهم على التأمّل فيما بعد… بيروت الخراب آنذاك والغارقة في بحار الدم، أنتجت نهضةً أدبيَّة على الصعد كافّة على الرغم من جرحها العميق وقتذاك:

وأرحل عن شوارعها
وأقول: ناري لا تموت
على البنايات الحمام
على بقاياها السلام
شكراً لبيروت الضباب

شكراً لبيروت الخراب (قصيدة «بيروت» محمود درويش)

الجميع، نعني الشعراء، حاولوا بعد الحرب أن يكتبوا كي يتخلّصوا من آثار الحرب. وهذا بالضبط ما باحَ به محمود درويش ذات مرّة ولم يستطع أن يخفيه ليصرخ علناً: «كتبت نصوص «ذاكرة للنسيان» وغاية هذا الكتاب النثريّ التحرّر من أثر بيروت».

عاش شعراءٌ في كنف المدينة الجريح، كتبوا بصمتٍ وهم حزانى على البلد، الشعراء إذ يتحوّلون إلى مُلّاكي حواجز، أو يتحيّنون دقيقة الهدنة كي يحصلوا على استراحة المحارب ليعاودوا حربهم مرَّةً أُخرى.

اليوميَّات

«كانوا يراقبوننا بمناظيرهم من الأعلى، وكنا نراقبهم من الأسفل بمنظارنا، وثمّة عصافير تنتقل دون خوف بين كمائننا وكمائنهم» (سليم بركات – كنيسة المحارب)

تبقى الحربُ عالقةً في الأذهان، غير أنّ الكتابة عنها تبقى الماسح الوحيد لذلك الألم، أو ربمّا لنسيانه بعض الوقت. كما أنّ الكتابة زمن الحرب تطرح الإشكالية الأكبر التي لا يمكن الإحاطة بها بسهولة. ثمّة وقتٌ تكثر فيه الدماء، ما يجعل من الكتابةِ أمراً مربكِاً لا يقدر معه المدوّن إلّا أن يتألّم. الكتابة عن حربٍ قديمة للأجيال القادمة التي ربمّا تضع الهوية اللبنانيَّة تحت الاختبار من خلال الكتابة. هكذا فعلت الروايات زمن الحرب، واليوميَّات المدوّنة والقصائد المغنّاة بأصواتٍ بهتت الآن في استسلامٍ كامل لليأس. القصص والحكايات في شارع الحمرا التي بقيت منذ أوّل رصاصةٍ اخترقت جسد بيروت المنهَك، غدت المنارة الأولى للفكر، الازدهارُ في أوج الغضبٍ المتجسِّد حرباً.

لا شيء يمكن أن يضاهي الكتابة عن الحرب أثناء تفاصيلها والعيش داخلها بكلّ صدق. الحقيقةُ كلّها تكونُ جليَّةً في الكتابة تلك، روح الحرب حاضرة، وتبقى كذلك مهما تقادمت السنوات، وهذا ما دأب على فعله سليم بركات وغيره من الشعراء الذين جايلوا الحصار والحرب الأهليَّة اللبنانيَّة، وضوحاً تارةً وتوريةً تحتاجها الكتابةُ تارةً أُخرى.

في أحد حواراته، يجيب سليم بركات الهارب من الغياب السوري عن سؤالٍ حول الكتابة عن الحرب بعد إصداره قصيدة «سوريا»، فيقول: «كانَتْ المرّةُ الأولى عن الحربِ الأهليّةِ اللبنانية، التي «اختزلتُها» كاملةً في روايةِ «أرواح هندسيّة» من مائتَي صفحةٍ، لا غير. ذلك مستحيلٌ في المنطقِ. تلزمُ للإحاطةِ بتلكَ الحربِ مجلّداتٌ، أينَ منها تولستوي!». وفي إشارةٍ أخرى إلى الحرب اللبنانيَّة، يقول: «كتبتُ حرباً أهليّةً تجريداً، تصلح بتعميمِها على كلّ حربٍ أهليّةٍ حدثَتْ، أو ستَحدُثُ».

حَكايا كثيرة تُسرَد بشكلٍ متقطّع حول الحرب. غير أنّها ترسمُ أدبيَّاً كل الذي كان سابقاً. إرثُ ما مضى يغدو حاضراً أمام الأعين كذكرى كتابيَّة وتدوينيَّة، دأبٌ قديم لاستعادة ما كان خلال لحظات الدم… لحظات حين يتحوّل الشاعر إلى صاحب حاجزٍ عسكري، أو يحمل المسدّس كي يحمي ذاته، هذا ما ذكره سليم بركات في يومياته التي لم يكتب مثلها بعد الحرب. «كنيسة المحارب» العنوان دالّاً على الحرب، الكتابةُ دالّةً على روح موسيقى الحرب الشرسة، العناصر اليوميّاتيَّة دالَّةً على غبار الألم، ليكتب بركات السوري والشاعِر بالألم اللبنانيّ كأيّ آخرٍ لبنانيٍّ ترعرع فيها: «لقد جمعنا هنا ما لا يجتمع إلا صدفة، مرّة واحدة وإلى الأبد: «ب 7» وسمفونيات «كارل أورف»، والكنيسة. لقد جمعنا الرب والمدائح، الرب والعالم، والرب والكلاشنكوف لنعلن حريّة الفقراء».

ثمّة حدائقُ خلفيَّة للحرب، تتضّح بعد انقضائها، تغدو الاستعادةُ ألماً مضاعفاً. ربمّا لهذا الألم يكفّ المجايلون الشعراء عن المضي في الحديث. هناك ما كُتِب ومن المستحيل إعادة النظر فيه، كما أن التدوين هنا لا يتعلٌّق بتاريخٍ مضى، إنّما بتاريخٍ مقبلٍ أيضاً يكرّر ذاته بالقسوة عينها، كأن يغدو الشاعر في غفلةٍ عنه جنديَّاً. الكوميديا في أقصى تجلّياتها حزناً: «اليوم وضعنا صخرة في منتصفها قضيب معدني أمام الحاجز، وأوصلنا مصباحاً كهربائياً صغيراً ببطاريتين، ليضيء إعلاناً صارخاً: «قف… حاجز»، لكن سائق شاحنة الذخيرة لم يقدر مسافة المرور، فجرف الصخرة والقضيب المعدني والبطاريتين… نقول: لا بأس، ونتخلّى عن الفكرة نهائياً».

أن يتبرّع شاعر في التجوال بشوارع بيروت المدمّرة بحثاً عن لقمةٍ يأكلها ومحتملٌ جداً أن يغدو الشاعر نفسه لقمةً تؤكَل! بيمناه مسدسّه ليحمي الروح المرتبكة فيما يدٌ أخرى تدوّن ما تبصرهُ الأعين، الحربُ في أوجها والكتابةُ كذلك: «من يستطيع أن يحكم أننا لم نكن مهرجاناً؟؟».

كتابةُ الخوف

على الرغم من أنّ محمود درويش لم يكتب عن الحرب اللبنانية سوى كتابةٍ شبه نقدية، غير أنّ وقتاً مستقطعاً كان يتوفَّر للتعبير. هذا الوقت المستقطع من الذكرى يتحدّث عنه في كتابه «ذاكرة للنسيان»، عندما يودّ لو أنّ هدنةً ما تُرتّب فقط خمس دقائق تكفي لإعداد فنجانٍ من القهوة… هذا الوقتُ المرعب والمحال تحقيقه في زمن الحرب، في نزلٍ لا يستطيع فيه أن يتحرَّك من غرفةٍ إلى أخرى بسبب قذائف الموت التي تطالُ كلّ شيءٍ حيّ: «أريد رائحة القهوة. لأتماسك، لأقف على قدميّ. كيف أذيع رائحة القهوة في خلاياي، وقذائف البحر تنقض على واجهة المطبخ المطل على البحر لنشر رائحة البارود ومذاق العدم! صرت أقيس المسافة الزمنية بين قذيفتين. ثانية واحدة.. ثانية واحدة لا تكفي لأن أقف أمام البوتاغاز الملاصق لواجهة الزجاج المطلة على البحر. أريد رائحة القهوة. أريد خمس دقائق.. أريد هدنة لمدة خمس دقائق من أجل القهوة. لم يعد لي من مطلب شخصي غير إعداد فنجان القهوة».

الوقتُ الذي يبدو مشلولاً زمن الحرب، لحظاتُ التناقض الصارخة، الشوارعُ الخاليةُ سوى من أزيز الرصاص والصَّدى، دوي الطلقات مكرّرةً نفسها في وقتنا الرّاهن، الكتابةُ عن الخوف، هي ذي الحربُ استعادةً في الكتابة.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى