تُواصل إسرائيل عمليتها العسكرية، الأكبر منذ عام 2006، في الضفة الغربية، بهدف دفع المقاومة الفلسطينية المتنامية في مدن شمالي الضفة وقراه، إلى الانكفاء والتموضع دفاعيّاً، خشية ارتفاع وتيرة الهجمات التي يشنّها المقاومون ضدّ قوات الاحتلال والمستوطنين. على أن هذا التصعيد «الوقائي» يعيبه نقص المعلومات الاستخبارية لدى إسرائيل، والتي تبدو قاصرة عن تحديد التهديد بشكل مباشر، ما يدفع الكيان تالياً إلى التضييق على الفلسطينيين والانتقال من اقتحام مدينة إلى أخرى، من دون أهداف مشخّصة مسبقاً، إلّا ما يتعلّق منها بإشغال الفلسطينيين بموقف دفاعي، عوضاً عن إتاحة الفرصة أمامهم لتعزيز موقفهم الهجومي. وقد سقط عشرات الشهداء جرّاء اقتحامات العدو المتكرّرة وتوغّلاته في المناطق المدينية، في شمالي الضفة تحديداً، حيث الثقل الفصائلي (حركتا «حماس» و«الجهاد الإسلامي»)، وخصوصاً في مدينتَي جنين ونابلس، وغيرهما من المدن والقرى والمخيّمات المحيطة بهما، فيما خلّفت الاعتداءات أيضاً أضراراً مادية هائلة في البنية التحتية، فضلاً عن أعداد كبيرة من الإصابات، وهو ما يطابق إلى حدٍّ معيّن ما يحدث في قطاع غزة، حيث التجريف والتدمير هدفان لذاتهما.وفي ضوء ما تقدّم، يمكن الإشارة إلى الآتي:
– أولاً: تدور إسرائيل في حلقة مفرغة في الضفة وشمالها، إذ تهدف العملية العسكرية التي باشرتها، قبل أسبوعين، إلى ردع المقاومة وحاضنتها، عبر عمليات القتل والمطاردة وتدفيع الثمن بالأرواح والممتلكات، ما من شأنه، وهنا المفارقة، أن يحفّز المستهدَفين على المبادرة إلى مزيد من العمليات رداً على الاعتداءات الإسرائيلية، ويعزّز الحافزية الموجودة أساساً على خلفية أحداث غزة، لإدامة الاشتباك وتسعيره.
– ثانياً: يصعب تقدير ما إذا كانت إسرائيل ستنجح في لجم حالة المقاومة في الضفة، لا بل يبدو الفشل مرجَحاً، وخصوصاً في ظل التعقيدات التي تسِم المشهد الميداني هناك. فالعمليات الفلسطينية التي شُنَّت في الضفة، لم تأتِ فقط على خلفية ما يحدث في غزة، بل أيضاً بسبب الاعتداءات التي لا تحصى للمستوطنين، والتي تجري بحماية الجيش، ضدّ المدن والقرى الفلسطينية، حتى وإنْ كانت هذه الأخيرة في موقع دفاعي بحت. وتلك سمة الميدان في الضفة منذ أشهر: اعتداءات من جانب مستوطنين تجبي من الفلسطينيين خسائر في الأرواح والممتلكات، وسط رعاية القوات الإسرائيلية للمعتدين، ثم رد فعل مقابل على شاكلة عمليات في أكثر من منطقة في الضفة، وداخل الأراضي المحتلة عام 1948، ليندفع الاحتلال مجدداً إلى التحرّك ضمن إستراتيجية القمع والعزل والمطاردة.
– ثالثاً: تستهلك الضفة موارد كبيرة من الجيش الإسرائيلي؛ إذ يصل عديد القوات المشاركة (بين احتياطية ونظامية) في العمليات الجارية حالياً، إلى نحو 30 كتيبة، وهو عدد لا يستهان به، من شأنه إشغال قوات الاحتلال عن الجبهات الأخرى، سواء في قطاع غزة أو في شمال فلسطين المحتلة. كما أن هذا الانشغال من شأنه التأثير سلباً على التهديد بتوسعة العمل العسكري في قطاع غزة، والأهمّ في جبهة الإسناد شمالاً، مع «حزب الله»، كونه يتسبّب بإضعاف السردية الإسرائيلية التي يجري تداولها حالياً عن استعدادات لشنّ عملية عسكرية كبيرة جداً في لبنان، تتضمّن توغلات برّية واحتلال جغرافيا واسعة من البلاد عبر عدد من الفرق.
– رابعاً: في حال تواصل العملية العسكرية في الضفة، فهي ستستتبع ردود فعل مقابلة شبه حتمية، يُقدَّر أن تتعاظم إلى حدّ اندلاع انتفاضة شاملة على غرار عام 2000، ما يعني تحقُّق تقديرات «الشاباك»، الذي لا يفتأ يحذر من سلوك اليمين المتطرف والمستوطنين، وجنوحهم نحو الاستيلاء على مزيد من الأرض الفلسطينية، وإنهاء أيّ رواسب من عملية «أوسلو»، وصولاً إلى المنظومة التي خلّفتها التسوية وهي السلطة الفلسطينية، التي تُعدّ بالنسبة إلى الفاشيين الإسرائيليين، رغم قصورها وتبعيتها أمنياً للاحتلال، رمزاً من رموز التطلع الوطني الفلسطيني، التي يجب التخلّص منها.
بالنتيجة، يبدو التصعيد الإسرائيلي في الضفة كفيلاً بإشغال الاحتلال، في الوعي والقرار والموارد، عن مهمّات وأهداف في ساحات أخرى، قريبة أو بعيدة، ما يُعدّ عاملاً جديداً سيفرض نفسه على طاولة القرار في تل أبيب، جنباً إلى جنب عوامل وأسباب أخرى، للانكفاء عن مواصلة العناد في حرب طال أمدها .
صحيفة الاخبار اللبنانية