مدن عرفتها قبل كورونا

 

أي بني.. هذه المؤامرات التي تحاك في القصور البعيدة وخلف البحار، هي على قومك، فانظر يا بني كم أنّ قومك مهمّون ومنسيّون كالأساطير.

أولئك الذين لم تكن  تستريح تحت حوافر خيولهم الأرض، يثيرون خلفهم النقع والغبار والعاشقات والأقاويل، تداعب الريح غررهم السّوداء، يمضون كالصّباحات الواعدة، ولا يترجّلون إلاّ ليصافحوا أو يموتوا. بنوا مدنا، همسوا لها بأسرار ثم رحلوا فما زال صمتها يثير غيظ الغرباء والحانقين.

بغداد: مالي ولأبي جعفر المنصور؟ دخلتك يافعاً  ومعتزلا ومحبّا لحلقات العلم  كواصل بن عطاء. لن أذكر منك الأحياء التي تذكر في نشرات الأخبار كي لا أزيد من جراحك. بغداد.. تذكّري.. لا.. أنا آسف لا تتذكري شيئا.

القاهرة: جئت من بلد كان يسكنه المعز، ورحل إليك وهو يحمل رفات موتاه.. لن أدخل معك في سجال أيتها القاهرة. أحبّك كبيرم التونسي ونجيب سرور وصلاح جاهين والأبنودي، وأحب أن ألتجئ إليك كأبي خليل القباني ويعقوب صنّوع ومارون نقّاش, أفخر بك أيتها الأم الرؤوم  لقد هزمتني رحابتك.

بيروت: مرفأ المرافئ، مرفأ كلّ شيء.. ولا قدر للمرافئ إلاّ الانتظار. كنت أحبّك وأنت تحاربين الحرب بالكتب والرقص والسهر. كل محبيك كانوا على حق.. وحتى كارهيك.. أظنّهم كانوا على حق.,

طنجة: صباح الخير أيها الليليون، صباح الخير أيها النهاريون، صباح الخير طنجة، أيتها المدينة المنغمسة في الزمن الزئبقي.. مساء الخير “محمد شكري” و”جان جينيه” الذي يسكن قبرا تحاوره مياه هذا المحيط.

الجزائر: عمت صباحا برائحة الصنوبر أيها الأمير.. ولبرنسك الدافئ وحصانك الجامح ألف تحية. “ما أشرس عشّاق الجزائر” قالت أمي وهي تعد الشاي الأخضر ممزوجا بأغنية أمازيغية.

حلب: المدينة التي ما زالت تصرّ على حلبيتها، تحرس ضجيحها  القدود ويحرس طيبتها الزعتر، واحتمال اتساخاتها الصّابون ولا تسلّم مفاتيحها إلاّ لأبنائها. مدينة كعمّال الميكانيك لا تكاد تعرفها في النهار ولكنّها متأنّقة في الليل ومتعالية ومنيعة كأصوات منشديها، اعذريني حلب، علّمتني أنتِ ألاّ أهيم بمدينتين.

حماه: كما النواعير دائما، لا تعصي عاصيها، تخضرّ المروج لدموعها ويغنّي البدو لنحيبها ولا تعبأ بغصّة الطحالب، هل جئت ترسب طحالب في حلق نواعيرَ الزمن؟.. هل يعمّدك ماؤهم ؟ هل يرقصك طحن أضراس الخشب الغارق؟!.. سدّ أذنيك بسبّابتيك ولا تنصت لحكايا الزمن المتصابي واعبر إلى الضفّة الأخرى  فلن يتّفق عاصيان.

أي بني، هناك مدينتان عصيّتان عن الوصف والحديث والمسامرة ـ والمدن أسرار ـ  ولن أحدّثك عنهما في وضح النهار كي لا تنجب أولادا صلعانا على قول جدّتي، وكي لا تكون شهادتي مجروحة، إذ لا ينبغي للواحد أن يغازل جلده وقامته ولون عينيه، إنّهما تونس ودمشق، ولك أن تكتشف.. ولن تكشف إلاّ قليلا.

باب الشرق

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى