كتب

‘مذكرات جورج أورويل’ تكشف من أين أتى بأفكار ورؤى رواياته

تمتع الكاتب الإنكليزي جورج أورويل أو إريك آرثر بلير بمخيلة خصبة وذكاء حاد وبصيرة نافذة وشغف بالقراءة والكتابة وحياة خاصة وعامة ممتلئة بالأحداث والمواقف والأفكار والرؤى، الأمر الذي انعكس جليا على كتاباته بشكل عام ورواياته بشكل خاصة، حيث وصف بعبقرية مرحلة ما بين الحربين العالميتين واضطراباته التي انعكست على الغرب والشرق معا، فضلا عن تنبؤاته التي تحققت بالفعل وما زالت تتحقق إلى يومنا هذا.

حيث لا تزال مثلا روايته “1984” تمارس حضورا واسعا على الرغم من تطور آليات الدكتاتورية والاستبداد، ولكن لكونها شكلت استشرافا لهذه التطورات القمعية للدكتاتوريات لا تزال تقرأ ويستمتع بقراءتها، أيضا روايته “مزرعة الحيوانات” التي تعري خيانات الأنظمة للدساتير والمبادئ.

وفي مذكراته “مذكرات جورج أورويل” التي حررها وقدم لها بيتر دافيسون، وترجمتها مريم عيسى وصدرت عن دار المدى، وضمت يوميات “قطف الجنجل” ويوميات “الطريق إلى رصيف ويغان البحري” واليوميات المنزلية المشكلة من خمسة أجزاء، بالإضافة إلى يوميات الحرب العالمية الثانية، وإدخالات أخته أفريل، لا نبتعد كثيرا عن التفاصيل المشحونة بالتوهج الإبداعي والفني في رواياته، لا نبتعد عن بساطة الرؤية وعمقها وأبعادها الدلالية، حيث تكشف المذكرات ـ إلى حد كبير ـ كيف تشكلت بصيرته النافذة وقدرته على التقاط وتشكيل حيوات شخصياته وما يعتمل داخلها وحولها من أفكار وأحداث، الأمر الذي مكنه التغلغل داخل النفس الإنسانية وقراءة واستشراف الكثير من مجريات المستقبل.

يقول دافيسون أن جورج أورويل كان كاتبا أصيلا للمذكرات والقوائم، لم يترك حيزا في دفاتره لم يملأه بأفكاره أو مسودات قصائده – “كان ذلك في صباح الثلاثاء” و”جوزيف هيغز، كان منتمية إلى هذه الأبرشية” أو يلصق فيه قصاصة من الجرائد والوصفات ونصائح الاعتناء بالحديقة وغيرها.

صنع قوائم من القادة الوطنيين والأغاني الشعبية والكلمات والعبارات المكتوبة باللاتينية والفرنسية وغيرها من اللغات. وكانت له قائمة مشهورة ضمت أولئك الذين عدهم شیوعیین بالخفاء ومؤيدين للحركة. كما أشار أورويل إلى قراءاته الواسعة في العام الأخير من حياته، وجمع الكتيبات، على مدار سنوات عدة، “موجودة الآن في المكتبة البريطانية” وبدأ في فهرستها. وكان حذرا في الإشارة إلى جميع المستحقات التي نالها عن كتاباته لتسهيل إعلان أرباحه من أجل تقرير ضريبة الدخل. لسوء الحظ، لم تبق إلا مستحقاته بين يوليو 1943 وديسمبر 1945، ومن المفارقة أن هذه المدفوعات مدرجة في مذكرة استخدمتها إيلين (Eileen) عندما كانت تعمل في وایتهول في دائرة الرقابة. وعلى الرغم من أنه لم يهتم بالحفاظ على مخطوطات أعماله المنشورة، ربما نجا بعضها (مثل نصي مزرعة الحيوان وألف وتسع مئة وأربعة وثمانون المطبوعين على الآلة الكاتبة) لأنه ببساطة لم يعش عمرة طويلا كافية لإتلافها.

ويتابع “أما مذكراته، فقد احتفظ بها وغالبا ما كانت مطبوعة. نجت إحدى عشرة منها. وهي لم تكن مذكرات خاصة من النوع البيبيسي ـ نسبة إلى سامويل بيبيس كاتب المذكرات والروائي الإنكليزي ـ المشفرة، بل بصفة رئيسية، سجلات واضحة عن حياته وملاحظاته حول الطبيعة والأحداث السياسية في عصر. عندما كان بعيد عن والينغتون في سبتمبر عام 1939، تولت إيلين مهمة الكتابة في يوميات منزلية الخاصة به، وفي شتاء 1947 ـ 1948 عندما كان في المستشفى، دونت أخته أفريل بالنيابة عنه بعض المعلومات الأساسية مثل حالة الطقس وما يجري حول بارنهيل”.

ويكشف دافيسون أن هنالك دفتر يوميان ثاني عشر وربما ثالث عشر، مخفيا في أرشيف المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية في موسكو. في عام 1996 أخبرني البروفسور ميكلوس كون، حفيد الزعيم الشوعي الهنغاري بيلا كون أن المفوضية استهدفت أورويل، وأنه يعرف بوجود ملف مخصص له في أرشيفها. كتب أورويل إلى تشالز دوران يخبره بمصادرة وثائق من غرفة زوجته في فندق كونتينينتال في برشلونة.

ويصرح في الحنين إلى كاتالونيا، أن ستة رجال شرطة بلباس مدني أخذوا مذكراتي. وبالنظر إلى إدمان أورويل على كتابة المذكرات، فمن المحتمل أنه كتب يومياته عندما كان يخدم مع الشرطة في بورما أيضا، لكن من غير المرجح أن تظهر مثل هذه المذكرة. في يومياته المنزلية ليوم 1 يونيو 1946 يشير أورويل إلى طريقة معالجة جلد الأرانب ـ مكتوبة في “اليوميات الأخرى” ـ لكن لم يعثر على هذه اليوميات يوما.

ويضيف على الرغم من النقص الواضح، تقدم هذه المذكرات الإحدى عشرة، إلى جانب يوميات دونها في دفترين، سجلّا شخصيا عن حياة أورويل، مع بعض الثغرات؛ منذ رحلته إلى قطف نبات الجنجل عام 1931 حتى أيامه الأخيرة في المستشفى.

وقد نشر موقع جائزة أورويل الإلكتروني بعد سبعين عاما، يومياته التي دونها منذ 9 أغسطس 1938 يوما بيوم، مصحوبة بخرائط ممتازة لرحلاته أثناء كتابته لها.

ويقول دافيسون “سعيت في تقديم هذه مذكرات أورويل هنا، إلى الحفاظ على السمات النمطية لأورويل كاتب المذكرات، لا أورويل المؤلف المحب للكمال، مع ضمان أن يكون النص سهل القراءة. أما الأغلاط التافهةوالأخطاء الإملائية فقد جرى تصحيحها من دون الإشارة إليها مع الإبقاء على عادته في كتابة “.i.e” و”.e.g” على شكل “.ie”و”.eg” لكن على سبيل المثال كتبت أسماء المجلات بالخط المائل، وجرت اللإشارة إلى جميع التغييرات الهامة.

ويشير دافيسون إلى أنه بعد انتهاء أورويل من عدد من المسودات لما سيصبح “متشردا في باريس ولندن” وتغيير مجريات الأحداث ـ كانت الأحداث في لندن، في الأصل، تسبق تجاربه الباريسية ـ قوبل الكتاب برفض كل من جوناثان كيب وت.س.إليوت بالنيابة عن دار نشر فيبر آند فيبر، “تماما كما سيرفض الاثنان لاحقا مزرعة الحيوانات”.

وحينها استسلم أورويل. لكن صديقته السيدة سنكلير فيرز، أرسلت النص إلى الرجل الذي سيصبح وكيل أعمال أورويل الأدبية وهو ليونارد مور، من وكالة كريستي آند مور. وأقنع مور فيكتور غولانكز بنشره، وكان أورويل يرغب بنشره من دون الإفصاح عن هويته، لأنه كان يعتقد أولا أن الحياة الحقيرة التي اختار أن يعيشها قد تزعج والديه، وثانيا لأنه، كما أخبر صديقه سير ريتشارد ريس “محرر في مجلة ذي أديلفي التي كتب لها”، كانت لديه مخاوف غريبة ـ شيء من الخرافة ـ في إظهار اسم الشخص الحقيقي في المطبوعات بإمكانه أن يتيح لعدو له أن “يمارس نوعا من السحر عليه”. إلا أن غولانكز أصر على وضع اسم ما، وفي النهاية اقترح أورويل، من بين أسماء عديدة، جورج أورويل. وبقي اسم إريك بلير في بعض السياقات ومع الأصدقاء القدامى، لكن أعماله الكتابية منذ ذلك الوقت أصبحت تحت اسم “جورج أورويل”، باستثناء بعض الأعمال التي قدمها إلى الـ “بي بي سي”. وفي 9 يناير 1933 طبعت دار غولانكز كتاب “متشردا في باريس ولندن” ونشر بعد ستة أشهر في نيونيورك كذلك”.

يقول أورويل في أحد يومياته التي كتبها أثناء رحلته الاستكشافية لـ “ويغان” عام 1936 التي رافقه فيها ـ كما يوضح دافيسون ـ فقر مدقع حيث لم يحصل إلا على دعم مادي قليل، “عندما تنخسف “كومةمن النفايات”، وهو ما يحدث في نهاية المطاف، فإنها تترك خلفها سطحا محدبا يزيد من بروزه حفر العمال في وقت الاضطرابات بعض هذه الأماكن بحثا عن قطع الفحم الصغيرة. أحد الأماكن كان ساحة لعب ويبدو الآن مثل بحر هائج تجمد فجأة. يدعى هذا محليا “حشوة القماش”. تكون التربة فوقه رمادية مغطاة بالرماد ولا ينمو عليها إلا عشب بني قبيح الشكل.

ذهبت هذا المساء إلى فعالية اجتماعية نظمتها حركة العمال العاطلين عن العمل الوطنية بمساعدة صندوق دفاع إرنست تيلمان. الدخول والوجبات المقدمة في الحفل “كوب شاي وفطيرة من اللحم”: 6 ب. حوالي مئتي شخص، أغلبهم من النساء ومعظمهم في “كو ـ أوب”، وأقيم الحفل في واحدة من غرفهن، وأعتقد أن القسم الأكبر منهن يعيش على الإعانات بشكل مباشر وغير مباشر. في الخلف بعض عمال المناجم كبار السن يجلسون بمظهر مسالم، وعدد كبير من الفتيات الصغيرات في الأمام. بعضهن يرقصن على أنغام الأكورديون الصغير “كثير من الفتيات اعترفن أنهن لا يمكنهن الرقص، وهو ما رأيته مثيرا للشفقة نوعا ما”، وبعض آخر يمارس التعذيب بالغناء.

أعتقد أن هؤلاء مثلوا بشكل واف شريحة عريضة من العنصر الأكثر ثورية في “ويغان”. إذا كان الأمر كذلك فعلا، فليساعدنا الله. الحشد الذي يشبه قطيع الغنم نفسه ـ فتيات فاغرات الفم ونساء في منتصف العمر لا شكل يميزها وتهوم فوق ما تحكيه ـ الذي تراه في أي مكان آخر. لم يعد هناك أي اضطراب في إنجلترا. إلا أن هناك نشيدا جيدا، تغنيه امرأة عجوز، أعتقد أنها كوكنية، تعيش على معاش الشيخوخة وما تكتسبه من الغناء في الحانات، ويقول:

“لأنه لا يمكنك فعل هذا ها هنا،

لا، لا يمكنك فعل هذا ها هنا،

في أي مكان آخر، يمكنك فعل هذا،

لكن لا يمكنك فعل هذا ها هنا”.

وحملت يومياته في زمن الحرب العالمية الثانية رصدا لكثير من التفاصيل والآراء التي كانت تتردد داخلالأوساط السياسية والفكرية البريطنية ورؤيته لها، وهذه التفاصيل والآراء التي تعري الكثير من أوضاع النخبة الحاكمة وحتى النخبة الثقافية في بريطانيا وقتئذ، فضلا عن رصده الآثار المدمرة للغارات الألمانية والتي طالت كل شيء، يقول في يومية 25 يونيو 1940 “دويّ إنذار بحدوث هجوم جوي البارحة حوالي الساعة 1 صباحا.

كان الإنذار كاذبا فيما يتعلق بلندن، لكن يبدو أن هناك غارة حقيقية حدثت في مكان آخر. استيقظنا وارتدينا ملابسنا لكننا لم نذهب إلى الملجأ. هذا ما فعله الجميع، النهوض ثم الوقوف في المكان وتبادل الأحاديث، وهو ما بدا في غاية الغباء. ولكن كان من الطبيعي النهوض عند سماع صفارة الإنذار وفي غياب أصوات إطلاق النار والأشياء المثيرة الأخرى، يشعر المرء بالخجل من الذهاب إلى الملجأ.

ويضيف في موضع آخر في هذه اليومية “إن عدم توفر الوقت لدى الحكومة هذه للقيام بحملة تجنيد ترك تأثيره القاتل على الدعاية… اللافت للنظر هو غياب أي ملصقات دعائية من النوع العام، تتناول الصراع ضد الفاشية مثلا. ليت أحدا يقوم بعرض ملصقات وزارة الإعلام المستخدمة في الحرب الإسبانية، أو حتى ملصقات فرانكو في هذا الشأن. لكن كيف لهؤلاء الناس أن يحرضوا الأمة على الفاشية عندما يكونون هم أنفسهم مؤيدين لها ويتملقون موسوليني حتى اللحظة التي دخلت إيطاليا فيها الحرب تقريبا؟ يقول ر.أ.بتلر في إجابته عن الأسئلة حول الاحتلال الإسباني لطنجة، إن حكومة المملكة البريطانية قبلت الوعد الذي صدر عن الحكومة الإسبانية بأن الإسبان لا يقومون بذلك إلا من أجل الحفاظ على الحياد في طنجة ـ أتى هذا بعد مظاهرات الفلانخيين في مدريد احتفالا بـ “احتلال” طنجة.. ونشرت صحف هذا الصباح “نفيا” للأخبار التي تقول إن هور في مدريد يطرح مسألة الهدنة. بعبارة أخرى، إنه يقوم فعلا بذلك. السؤال الوحيد: هل يمكننا التخلص من هؤلاء في الأسابيع القليلة القادمة قبل فوات الأوان؟.

ويتابع “الخيانة غير الواعية للطبقة الحاكمة البريطانية في ما يعد حربا طبقية فعلا واضحة جدا بحيث لا تستحق الإشارة إليها. السؤال الصعب هو إلى أي درجة تنتشر الخيانة المتعمدة.. يقول “ل.م” ـ ل. هـ. مايرز كاتب روائي صديقي لأورويل ـ الذي يعرف هؤلاء الناس، أو التقى بهم على الأقل، إن الطبقة الأرستقراطية البريطانية كلها، مع بعض الاستثناءات الفردية مثل تشرشل، فاسدة وتفتقر إلى أقل نوع من الوطنية، ولا تهتم في الواقع إلا بالحفاظ على معايير حياتها الخاصة.

ويقول إنهم مدركون تماما لحالتهم الطبقية ويميزون بوضوح المجتمع الذي يؤمن لهم مصالحهم ومصالح الأغنياء في أماكن أخرى.

ويقول أن فكرة سقوط موسوليني لطالما كانت كابوسا لهم. حتى أصابت توقعات “ل./” منذ اليوم الأول للحرب تماما.

ميدل إيست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى