مرة أخرى لم تفز بي ” نوبل ” ….
مرّة أخرى ـ ومثل كلّ عام ـ تخذلني أكاديميّة ستوكهولم وتمنح جائزتها لواحد غيري.
أعرف أنّي سأنضمّ إلى لائحة النبلاء ” النوبليين ” و أنا في أرذل العمر على ـ شفا حفرة ـ وسوف أمنح ما يقارب المليوني دولار وقد ذبلت أو انطفأت عيناي تماما و أصبحتا عاجزتين على عدّ النقود وتوقيع الشيكات وقراءة رسائل المعجبين أمّا يداي وشفتاي فسترتعشان عند احتضان أو تقبيل كاتبة شابة حتّى لو لم تكن موهوبة…لا يهم .
أعرف أنّ أغلبكم سوف يبتسم باستخفاف أو يسخر باستهجان وهو يقرأ هذه المقدّمة التي لا بدّ منها لسبب وحيد وهو أنّ صحف العالم سوف تبحث في أرشيفي المكتوب منذ خمسين عاماً وتستأذن الجريدة هذه الزاوية التي أعدت كتابتها بلغة أجنبيّة زيادة في التوثيق وضرورة الاحتياط…وأعرف أنّ أصحاب الجريدة ورؤساء تحريرها سوف يعضّون أصابعهم ويندمون على تواضع مبلغ الإستكتاب الذي أصرفه كله الآن على “”ملذاتي الشخصية ” وأستمر في كتابة أضغاثي .
لم تفز بي نوبل لأنّي في نظرها غرّ ومبتدئ ولم أنضج بعد حتّى لو لم يسمع بي أعضاؤها، كيف لهم أن يسمعوا بي وأنا أسكن ضاحية بعيدة وأتنقّل على قدمي ولا أركب إلاّ رأسي ولا أجالس إلاّ رفقة السوء..!؟.
كيف لهم أن يسمعوا بي وأنا لم أسع للتعرّف إليهم وأبلغهم بأنّي مناصر للمحبّة والحوار ومتعصّب للتسامح ونبذ العنف.
إذا سخر كاتب من طموحي فسأردّ عليه بسخرية مضادّة :كيف لك أن تقبل بمهنة الكتابة دون أن تحلم بأرقى الجوائز وأعلاها..!؟ ….قد ترضى بأن تكون بقالاً إلى جانب فضاء جاري عملاق …لكّن الكتابة لا تترضى بهذه القناعة المهينة .
……………………
ـ إجابتك وصلتني وتوقّعتها، أنت تشكّك في الجائزة ونزاهتها ثمّ أنّ الكتابة الحرّة – برأيك ـ لا تنتظر المكافآت والاعترافات، أليس هذا ما قصدته؟
لا ترفضها فتفعل ما فعله سارتر في حركة لا تخلو من الاستعراض وشدّ الأنظار، اقبلها ثمّ تجاوزها وافعل ما فعله نسر لا يطوي جناحيه ما دامت هناك قمّة لم يبلغها بعد.
قد تقول إنّ الكتّاب كثر والموهوبين كثر والجائزة ليست يوميّة أو أسبوعيّة ولا أريد أن أكون مثل الذي يداه على ورقة يانصيب وعيناه على دواليب الحظ.
أنت محظوظ لمجرّد وجودك على قيد الحياة. ألست واحدا من ملايين الحيوانات المنويّة التي سابقت وتسابقت للوصول إلى البويضة في معجزة التلقيح!؟ ..فمتك و أنا أيضا كنت مدفوعا إلى هذا السسبا بدل القبع في زنزانة الخصيتين .
ألا يحسدك الأموات كلّ صباح وأنت ترتشف القهوة وتنظر لشمس نظر إليها ملايين الملايين ممّن سبقوك إلىى تذوق الحلم؟!
ألا تعد نفسك بمفاجأة مبهجة كتلك التي حدثت لـ(داريوفو ) الكاتب الشعبي الأخّاذ الذي هنّأه الناس في الطريق بنوبل قبل أن يسمع بالخبر وهو في سيّارته السلحفاة فسخر منهم ومن الجائزة بقبضته على الطريقة الايطاليّة ثمّ اعتذر بدموع الفرح وهو يتسلّمها. كن كنجيب محفوظ الذي سافرت كتبه وحاراته المصريّة خارج القاهرة أكثر منه. كن كماركيز الذي يفاخر بصداقته مع كاسترو ويتباهى بها أمام جمعيات حقوق الإنسان الغربيّة. كن كطاغور الهند الذي تحفظ له كلّ الأجيال والأعراق شعره ومنحته جنسيتها كلّ الشعوب. كن واثق الخطوة أيّها الكاتب الحقيقي كملك عادل لا يغتصب عرشاً أو حقّاً أو صولجاناً.
صحيح أنّهم تآمروا علينا بتكريس ذهنيّة المؤامرة في نفوسنا حتّى صار الواحد يشكّ ويشكّك فيما يكتبه قلمه وصحيح أنّ هامش الحريّة في عالمنا العربي أضيق من حارتنا وصحيح أنّ الغرب لا ينظر إلينا إلاّ ونحن في المتاحف وبين الأوابد معروضين أو محطّمين لها….. لكنّ الأرض تدور ومعها الدوائر والمصائر .عفواً، من قال إن الأرض تدور ؟.
رحل ألفريد نوبل ناقماً على الحسابات الضيّقة والرياضيات التي لم يخصّص لها جائزة بسبب حقده على عشيق زوجته و ترك ثروة وباروداً ومجداً تتباهى به بلده التي تحتضن أيتام العالم رغم برودة شمسها.
علّمنا التاريخ أنّ الأسماء تعمّر أكثر من أصحابها فلماذا لا نعلّم التاريخ ضرورة الاعتراف بمن لا يريدون كتابته بزيف وتدليس؟
من قال إنّ التاريخ أشيب وأصلع الرأس وضعيف النظر !؟ إنّه يتجدّد مع كلّ لحظة كتابة، فيا كتّاب العرب اكتبوا ولا تتّحدوا لأنّ الاختلاف يصلح أيّ قضيّة ويفسد الرتابة والنمطيّة والتسطيح.
لا تتركوا مقعد نجيب محفوظ شاغراً فما أجمل العربية في تلفزيونات العالم دون الحديث عن حرق الكتب وإعدام التماثيل ورجم الحرية والأحرار والحرائر ..
مقال قديم سأعيد نشره في مثل هذه الأيام من كل عام إلى أن ياتي ما يخال ذلك.