مسؤوليّة البحث عن الوطن

فشل العدوان الإسرائيليّ على غزّة في نقطة جوهريّة ومهمّة، وهي أنّ وحدة الضفّة والقطاع قد ترسّخت. الفصائل الفلسطينيّة توحّدت في وفدٍ مشترك يفاوض بصوتٍ واحد للخروج من الحصار المفروض على غزّة منذ سنين، أرضيّته أنّ الجميع مسؤولون أمام وحشيّة العدوان وما أوقعه من دمٍ ودمار ما أفقد إسرائيل رصيداً معنويّاً كبيراً لدى الرأي العام العالميّ.
كان أحد أهداف العدوان هو ضرب اتفاق حكومة الوحدة الوطنيّة الفلسطينيّة، وضرب إسفين التفرقة بين من اختار النضال السياسيّ وذلك الذي اعتمد المقاومة المسلّحة، بين القوى التي اعتمدت الإسلام السياسيّ وتلك التي لا تعتمده، وبين من ناصر حكومة «الإخوان المسلمين» في مصر وذلك الذي ناهضها، وبين من دعمته دول الخليج ومن دعمته إيران وسوريا. لكنّ من اختار المقاومة المسلّحة أثبت جدارة وصلابة، ومن اختار النضال السياسيّ وقف وراء هذه المقاومة في وجه العدوان، الذي بات استمراره مستحيلاً وباهظ الثمن. بالتالي، ما كان مشروع حكومة وطنيّة هشّا، استجابة لمطلبٍ شعبيّ بالوحدة، أضحى مشروعاً فلسطينيًّا لفكّ غزّة من الحصار ولنصرة أهلها ودعم صمودهم وتضميد جراحهم، بلّ ربّما لخطوات أكثر تقدّماً في اتجاه وضع يعمل أكثر لمصلحة الفسطينيين ووطنهم وحريّتهم.
معركة هذه الوحدة الوطنيّة الفلسطينيّة هي اليوم في بداياتها على أرض السياسات الإقليميّة والدوليّة، كما في الداخل الفلسطينيّ. والمعركة قد تواجه اختبار عدوانٍ جديد. إلاّ أنّ المنطقة برمّتها هدّأت من صراعاتها المذهبيّة العقيمة لدعم الفلسطينيين باستثناء التنظيمات الإرهابيّة. وبرز بحكم الواقع الجغرافيّ دور محوريّ لمصر ما بعد تطوّراتها الأخيرة، وما قد يكون مفترق طرق لسياساتها المعتمدة منذ زمنٍ طويل.
في لبنان أيضاً، أدّى نقل الصراع السوريّ المسلّح إلى الداخل اللبنانيّ إلى بروز موقف موحّد غير مسبوق بين الفرقاء اللبنانيين وراء جيش بلادهم، وذلك برغم الاستعصاء السياسيّ الحادّ الذي ترك البلاد من دون رئيس جمهوريّة.
لقد أضحى الأمر أكبر من سياسة «النأي بالنفس»، ومن إدانة انخراط «حزب الله» ولبنانيين آخرين في الحرب السوريّة لجانب هذا الطرف أو ذاك، إذ مثّل خرقاً لهذه السياسة. واحتلّ مقدّمة الاهتمام مشهد مسيحيي الموصل وأيزيدييّ العراق الذين تنتهك حقوقهم وكراماتهم ويهجّرون، وصورة انفراط عقد وحدود المنطقّة برمّتها من جرّاء التنظيمات المرتبطة بـ«القاعدة». هكذا عادت ذكرى الحرب الأهليّة اللبنانيّة المدمّرة إلى الأذهان وبرزت مخاطر تفجير فتنتها من جديد، التي يبقى الجيش اللبنانيّ هو الحصن الأساسيّ للوقاية منها.
أضف إلى ذلك أنّ لبنان يحتضن اليوم لاجئين سوريين يفوق عددهم ثلث سكّانه. لقد أتوا إليه أوّلاً بحثاً عن الأمن وهرباً من الحرب. وتبقى مسؤوليّة الحفاظ على أمنهم على عاتق الدولة اللبنانيّة والجيش اللبناني باعتباره أداتها التنفيذيّة، وهذا ما لا يمكن تحقيقه من دون وحدة وطنيّة لبنانيّة.
هذه الوحدة الوطنيّة الجديدة تضع حزم قيادة الجيش اللبنانيّ وحكمتها على المحكّ، وتفتح المجال للخروج من الاستعصاء السياسيّ القائم بالرغم من ارتباط هذا الاستعصاء بالصراعات الإقليميّة المحتدمة.
أمّا في سوريا، فلا وحدة وطنيّة حتّى اليوم. ولا حتّى توحّد ضمن أطياف المعارضة ولا بين القوى الموالية للسلطة الحالية. خلافات حول الأسس والأهداف وتعريف الإرهاب والسيادة والوطنيّة وطبيعة الصراع ومن هو الصديق ومن هو العدوّ، وقتال حول موارد وسبل التمويل والتسليح.
السلطة القائمة واهمة عندما تتصوّر أنّها ستفرض نظرتها وهيمنتها بقوّة السلاح، والمعارضة لم تفقد بعد الأمل في أنّ دولاً خارجيّة ستساعدها على فرض نظرة مخالفة أيضاً بالقوّة. المستفيد الوحيد هو التنظيمات المرتبطة بـ«القاعدة» وإسرائيل، وكلا الفريقين لا يريدان أن تبقى سوريا وطنا لكلّ السوريين.
على كلّ وطنيّ حريص اليوم، وفي جميع الحالات، أن يأخذ موقفاً مسؤولاً وشجاعاً بحثاً عن وقف الشرذمة وفي سبيل مستقبل الوطن والمواطن.
صحيفة السفير اللبنانية