مسامرات الكتاب في رمضان.. أحاديث طه حسين (2)

دائما كان يمثل شهر رمضان لكبار الكتاب والأدباء في مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، مناسبة مواتية للتخفف من أثقال الكتابة السياسية والارتباطات الكتابية الدورية الأخرى، في هذا الشهر يجدد الكتاب نشاطهم ويعيدون شحن طاقتهم الروحية والنفسية، ويستعيدون بكثير من المتعة العقلية ألوانا من الذكريات والتأملات الفكرية والدينية والثقافية عن رمضان وحوله أيضا.

ولأن تلك الفترة كانت زاخرة بالدوريات الثقافية الممتازة، مثل السياسة الأسبوعية والرسالة والثقافة وغيرها، أتيح لمعظم الأدباء والكتاب تقريبا أن يسجلوا الكثير من كتاباتهم حول رمضان في هذه الدوريات التي تمثل كنزا ثمينا ونادرا لم تكتشف كل جواهره ودرره بعد.

وكان طه حسين أحد نجوم الكتابة والصحافة في هذه الفترة بلا منازع، وكان من الذين يعتنون بكتابة مادة مختلفة ومتميزة وخاصة لقرائه في شهر رمضان، إما كتابة ذاتية تستدعي أطيافا من التأملات والذكريات عن طفولته وصباه في القرية، أو كتابة بحثية جادة ورصينة تحمل معرفة زاخرة عن شهر الصيام وفلسفته وتحمل أيضا تأملات دينية وفكرية خصبة لها طابع خاص ومميز.

ومن يراجع كتاب “الأيام” الشهير، سيجد عميد الأدب العربي قد كتب عن حلول الشهر الكريم وهو طفل في قريته بالصعيد، ورصد كعادته وبأسلوبه الفاتن وموسيقاه اللافتة، مظاهر السلوك والتغيير في العادات التي تطرأ على الأسرة خلال الشهر الكريم، وتكاد تكون المشاهد التي سجلها طه حسين في أيامه محفوظة من كثرة ما رجع إليها الكتاب واستشهدوا بها.

لكن طه حسين كتب عن رمضان في غير موضع من كتبه الأخرى، كتب فصلا رائعا عن فلسفة الصيام ومغزاه في كتابه الجميل “مرآة الإسلام”، كما كتب فصلا بديعا بعنوان “إجازة” في كتابه “ألوان” سجل فيه شيئا من حياة الأزهريين وسلوكهم ونفسياتهم في رمضان، وفي كتابه “أحاديث” أيضًا.

وكل هذه الفصول هي في الأصل مقالاته التي كان يكتبها للصحف والدوريات الثقافية خلال تلك الفترة، لكن يظل من أبرزها ارتباطا بشهر رمضان، فصول ضمها كتابه “أحاديث”، وهو من كتبه غير المشهورة، ويحمل طابع المسامرات والأحاديث الحرة التي كان يمليها في مناسبات مختلفة.

في هذا الكتاب يصور طه حسين لوحة قلمية غاية الروعة للجامع الأزهر وما يدور فيه من نشاط ويجري فيه من حركة في شهر رمضان خاصة، وإذا اجتمع مكان فريد في زمان مخصوص وتوقيت معلوم كانت المحصلة بلا شك صورة لا تتكرر في أي مكان من العالم عنوانها “الأزهر في رمضان”.

يقول طه حسين في كتابه “أحاديث “: ولن تجد حركة أعظم نشاطًا وأقوى حياةً من الأزهر القائم هناك في حي من أحياء القاهرة. قال أصحابي وكلهم مثلي من أبناء الأزهر الذين بعد عهدهم به وطال فراقهم له: وما يمنعنا أن نختم رمضان بزيارة قصيرة للأزهر نحيي بها العهد القديم ونذكر بها أيام الشباب؟ قلت: وإني في ذلك لراغب، وإني إلى ذلك لمشوق. ومضينا إلى الأزهر ونحن نقدر أن سنجد فيه تلك الصورة التي ألفناها، وأن سنسمع فيه ذلك الدويّ الذي عرفناه، وأن سنختلط به اختلاطًا، ونمتزج به امتزاجًا، ونقف فيه كما كنا نفعل أيام الشباب وقفات فيها الجد الخصب، وفيها هزل يشوبه الحب والعطف، نتنقَّل بين هذه الحلقات المنبثة في أرجائه نسمع لهذا الشيخ وهو يقرأ الحديث أو التفسير أو يقص قصص الوُعَّاظ فيعجبنا صوته وإلقاؤه وفهمه وإفهامه فنعجب به ونبسم له، ونتجاوزه إلى ذلك الشيخ فيضحكنا صوته أو إلقاؤه أو لازمة من لوازمه أو بعض ما يدفع إليه من الخطأ في الفهم أو السخف في الإفهام فننصرف عنه ضاحكين متفكهين، حتى إذا قضينا من هذا كله أربًا خرجنا وقد ذكرنا أنفسنا وسعدنا بلقاء تلك الأيام العِذاب”. (أحاديث، ص 56).

في هذه الفقرات تتجلى روعة أسلوب العميد وقدرته المدهشة على التصوير وهو الذي كُفّ بصره وحرم نعمة الإبصار، فيرسم صورة بارعة لمشهد من المستحيل أن تجد من سجله بهذه الدقة والروعة فضلا عن القيمة التاريخية والمعرفية لتوثيق مثل هذه المشاهد من الحياة في مصر في فترة مبكرة من نهضتها الأولى. ويبدو من السياق أن الزيارة التي أرادها طه حسين وصحبه للأزهر في ختام رمضان، كانت بعد أن انقطع اتصاله بالأزهر كطالب، وبعدما تحقق له نجاح وشهرة عقب تخرجه في الجامعة المصرية الوليدة، ويبدو استدعاؤه لدقائق المشهد الذي كان يميز الجامع الأزهر، أقدم جامعة عرفها التاريخ، فريدا وجامعا لتفاصيل بات من الصعب أن يعثر عليها باحث بسهولة في أي مصدر من المصادر.

وفي موضع آخر من أحاديثه يسجل طه حسين مشهدا آخر من مشاهد الأزهر خلال رمضان، فيصف كيف كان الطلاب والأساتذة يحصلون على ما نسميه الآن “الإجازة” أو فترة الانقطاع عن الدراسة بكيفية وطريقة مخصوصة لها نظام، كانوا يطلقون عليها في القديم اسم “المسامحة”، يقول طه حسين:

“وكنَّا نَعرِفُ المُسامحات الطوال حين يُقبِل فصل الصيف، وحين يظل شهر رمضان أساتذة الأزْهَر وتلاميذه أثناء الشتاء، والمُسامحات القِصَار حين تعود الأعياد وتظل المواسم.
وكنا نفهم من هذه الكلمة أنَّ النظام الأزهري أو المدرسي يُسامح المعلمين والمُتعلمين، ويأذن لهم في أن يستريحوا من جهد الدرس ومَشقة الطلب وخُشونة الحياة، وفي أن يعودوا إلى أهلهم في المدن والقرى؛ ليجدوا عندهم أيامًا فارغة، تستريح فيها العقول، وتنمو فيها الأجسام، وتستمتع فيها النفوس بشيء من الرَّوح والهدوء.
وكانت كلمة المُسامحة هذه تؤدي معناها في قوة ويُسر، لا نكاد ننطق بها حتى نفهم منها الرَّاحة والدعة والحُرِّية والنَّوم إلى أن يرتفع الضُّحى، لا نستيقظ قبل أن نُدعى إلى صلاة الفجر لنشهد الصلاة ونسمع الدروس، والنَّوم إذا زالت الشمس واجتمعنا حول مائدة الغداء وتفرقنا عنها، لا نعجل عن ذلك بدرس النَّحو أو درس البلاغة، والسهر حتى يتقدم الليل فيبلغ نصفه أو يتجاوز النصف، نسْمُر أثناء ذلك بما يُسلي ويُلهي، ولا نشق على أنفسنا بتلك المُشكلات العلمية التي كانت تكلفنا ألوان العناء. ولست أدري كيفَ أعرضنا عن كلمة المُسامحة تلك السمحة الحلوة التي يمتد بها الصوت ويُشارك في النطق بها الحلق واللسان والشفتان، إلى كلمة الإجازة هذه القصيرة التي اجتمع بعض حروفها على بعض فلا يكاد الصوت يمتد بها، ولا تكاد النفس تَجِد حين يجري بها اللسان شيئًا من راحة أو دعة أو هدوء.”

ما أجمل المسامحات “زمان”، وما أمتع الأحاديث التي كان يمليها طه حسين في رمضان وعن رمضان فنرى بأعيننا ونسمع بآذاننا قطعة من الجمال في زمن نستذكره ونستحضره بحنين وابتسام.. كان رمضان فيه مدعاة للمعرفة والتأمل والتذكر والكتابة الممتعة.

صحيفة رأي اليوم الالكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى