«مسرحية» جرابلس: ماذا بعد استعادة «مرج دابق»؟
وأخيراً تحققت «الاستدارة» التركية التي تحدث الكثيرون عنها. هي في الحقيقة «اللااستدارة»!
عن سابق تصور وتصميم، اختارت تركيا يوم 24 آب لتقوم بغزوها لسوريا. هي الذكرى الخمسمئة بالضبط لمعركة مرج دابق في العام 1516 التي كسر فيها الغازي العثماني السلطان سليم الأول السلطان المملوكي قانصوه الغوري. ولولا خيانة القائد المملوكي خير بيك، لما أمكن للغزاة العثمانيين أن يحتلوا بلاد الشام ومن بعدها مصر.
لم يتغير شيء بين اليوم والبارحة. استبدل الأتراك السلطان سليم الأول بالسلطان الجديد رجب طيب أردوغان. وبدلاً من خير بك واحد، كانت كتائب «الجيش الحر» و«السلطان مراد» و«نورالدين الزنكي».
في يوم مرج دابق، اختارت تركيا أن تعبر بقواتها إلى الأراضي السورية وسط ظروف شديدة التعقيد والالتباس ومتعددة الأبعاد.
ظروف العملية وأهدافها
1ـ أتت العملية التركية المسماة «درع الفرات»، وسط تطورات في غاية الإثارة عكسها ظاهرياً التقارب التركي ـ الروسي، والتركي ـ الإيراني، وعلّق الكثيرون عليها الآمال من اجل استدارة تركية نحو الأزمة السورية. وجاءت تصريحات رئيس الحكومة التركية بن علي يلديريم كما نائب رئيس الحكومة نعمان قورتولموش حول الاستعداد لمرونةٍ تجاه سوريا وموقع الرئيس السوري بشار الأسد في العملية السلمية، وقول قورتولموش إن كل مصائب تركيا من سياسة تركيا السورية، لتضفي تفاؤلاً على المشهد العام.
2 ـ لكن الأمور لم تكن على هذا النحو. أردوغان بقي صامتاً طوال كل هذه الفترة على قاعدة ان الكلمة الأخيرة هي التي سينطق هو بها. صمت أردوغان كان معبّراً، وكان يخفي الكثير من الخطط الكامنة. وكم من مرة كنا شاهدين على يلديريم كيف كان يقول الشيء ونقيضه، فلم يعد أحد يعرف حقيقة الموقف التركي.
وأخيراً نطق أردوغان في مؤتمره الصحافي مع نائب الرئيس الأميركي جو بايدن قائلاً إن سوريا يكون (الرئيس السوري بشار) الأسد رئيساً لها لن تعرف الديموقراطية. ولا اعتقد أن هذا الموقف يحتمل القول إن تركيا يمكن ان توافق على دور للأسد في المستقبل، مع التأكيد على أن تركيا لا يحق لها لا هي ولا غيرها ان تقرر نيابة عن الشعب السوري. وفي اليوم التالي، قال إن تركيا لا يمكن ان تجلس أبداً مع الأسد، في كلام أوضح من عين الشمس.
3 ـ جاءت عملية «درع الفرات» العسكرية التركية من أجل إعادة رسم المشهد السوري على الأقل في شماله. لكن قبل ذلك، فإن العملية في التوصيف السياسي تدخل في باب العدوان على سوريا وانتهاك السيادة. فليس من قوة داخل سوريا اعتدت على تركيا لكي تقول الأخيرة إنها تعرضت للعدوان. أما سقوط قذائف من وقت لآخر من سوريا على الأراضي التركية، فالكل يعرف هذه المسرحية ومن أين تأتي القذائف ومن يطلقها. ومع ان بيان وزارة الخارجية السورية لم يكن قوياً وبحجم التهديد التركي، فإن الإعلام السوري أعاد التوازن إلى الموقف من العملية التركية. فهذه العملية هي بكل الأوصاف عدوان وأكبر من ان يوصف بالانتهاك. ولا يمكن تحت أي ظرف ان يُقارَب بطريقة اخرى.
4 ـ العملية تؤكد للمرة الألف أن تركيا هي القاعدة المركزية للجماعات المسلحة في سوريا. فتركيا الآن وللمرة الأولى تظهر علناً كيف تستقدم عناصر «المعارضة» وتستضيفهم على أرضها في معسكرات ومن ثم تطلقهم عبر حدودها إلى أراضي دولة أخرى هي سوريا. وتظهر كيف هي تنقلهم بدباباتها مع الأطقم التركية. وهذا لا يحدث بين ليلة وضحاها أو مجرد نتيجة لسقوط منبج قبل أيام. تركيا لم تعد تخفي دورها المباشر.
5 ـ الهدف المعلن لتركيا هو تنظيف جرابلس من عناصر «داعش». وهذا هدفٌ مشروع. لكن محاربة «داعش» على الأراضي السورية يتطلب التنسيق مع دمشق، وفقاً لبيان الخارجية السورية، وهو ما لم تفعله تركيا.
مشروعية الهدف بحد ذاته تنقض الإدعاء التركي. فتركيا لم تكن في يوم من الأيام عدواً لـ«داعش»، بل بالعكس كانت نصيراً لهذا التنظيم الإرهابي وحاضناً له. فكيف يمكن لتركيا أن تحارب تنظيماً هي ترعاه؟
ورغم كل المزاعم التركية، فإن «داعش» لم يستهدف ولا مرة واحدة المصالح التركية لا في الداخل ولا في الخارج. وكل الهجمات داخل تركيا التي كانت أنقرة تقول إنها من عمل «داعش» لم يتبنَّ التنظيم أياً منها، وآخرها تفجير العرس في غازي عنتاب. والسبب بسيط هو ان تفجيرات مثل سوروتش وانقرة وغازي عنتاب كانت تستهدف تجمعات كردية وتهدف إلى ترويع الأكراد لأسباب مختلفة. والتفجير الأخير استهدف عرساً كردياً كان فيه أيضاً مسؤولون من «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي وكان يهدف للرد على الخسائر التي يلحقها «حزب العمال الكردستاني» بالجيش التركي والتي بالكاد يمر يوم دون سقوط قتلى من الجنود الأتراك.
أكثر من ذلك، قبل يوم واحد من عملية جرابلس كانت الصحافة التركية تنشر بالتفصيل، وبالأسماء والأرقام، مناطق تواجد «داعش» في كل تركيا وفي غازي عنتاب. وكان المواطن التركي يتساءل: هل يعقل ان نعرف نحن (عن «داعش») ما لا تعرفه الحكومة التركية؟ لذا لم يكن مفاجئاً أن يتم تحميل الحكومة، بل اردوغان، مسؤولية تفجير غازي عنتاب عندما أطلق مشيعو ضحايا التفجير الـ58 هتافات جماعية مثل «اردوغان قاتل». ولو أن تركيا جادة في محاربة إرهاب «داعش» وغيره، لكانت حاربته أولاً في داخل تركيا وفي غازي عنتاب بالذات.
6 ـ ثم جاءت مسرحية جرابلس لتكشف هزالة الإخراج، رغم أن تركيا مشهورة بمسلسلاتها التلفزيونية. لم يرق للمخرج أن تراقَ حتى نقطة دم واحدة خلال العملية. هذا «الداعش» الذي لم يشتهر إلا بالتوحش وسفك الدماء، هل يعقل أن يسلم مفاتيح المدينة الأخيرة المتبقية له على الحدود مع تركيا من دون الدفاع عن «شرف الإسلام» ولو بنقطة دم واحدة؟ هي ليست حرباً لنقول إنها نظيفة او غير نظيفة، بل مسرحية ممجوجة لفجاجتها. الملك التركي في جرابلس كان عارياً بالكامل. وبعد ذلك يقولون إنهم يحاربون «داعش». ثم إلى أين ذهب الإرهابيون الذين لم يغادروها في الأساس بل كانوا ينتظرون رعاتهم ورفاقهم في السلاح والغذاء والطبابة ليستكملوا بعد الآن المعركة «الجهادية» المشتركة ضد كل من لا يشبههم.
7 ـ في الهدف المعلن الثاني أن أنقرة تريد منع الأكراد في سوريا من استكمال «الكوريدور الكردي» بمنع سيطرة الأكراد على جرابلس والمنطقة الممتدة حتى أعزاز.
ولكن هذا الهدف كان موجوداً منذ وقت طويل ولم تنجح تركيا في تحقيقه بسبب معارضة الولايات المتحدة الأميركية. وهذا ينقل الحديث إلى مستوى آخر قد يكون محرجاً للبعض.
اليوم استفادت تركيا من بعض الظروف لكي توجه ضربتها المرج دابقية:
أ ـ استفادت من التقارب مع روسيا وإيران والمناخات التي شاعت عن تفاهمات واستدارات لتكسب على الأقل عدم تنديد قوي بالعملية العسكرية، وممانعة أقل لدى الرأي العام، وبما يوحي أن العملية نالت موافقة مسبقة من موسكو وطهران ودمشق. وقد منح التجاوب الروسي ـ الإيراني مع الانفتاح اللفظي لتركيا الفرصة لكي يمتلك اردوغان اوراقاً، ليس لحل المشكلة السورية بل ليساوم بها واشنطن لكي توافق على المنطقة الآمنة، وبالتالي التدخل العسكري التركي في سوريا واحتلال جرابلس. وهو احتلال سوف يرى محور الممانعة أو بعضه، مدى خطأ الرهان على تحول ما في سياسة تركيا السورية، بل مدى النتائج الخطيرة التي ستترتب على الاحتلال التركي لجرابلس وما بعد جرابلس لاحقاً.
ب ـ من هنا كان الصدام العسكري بين الجيش السوري و«قوات الحماية» الكردية في الحسكة خطأ كبيراً ما كان يجب أن يحدث استفادت منه تركيا لتوحي أن عمليتها في جرابلس لمنع الأكراد من التوسع إليها لا تختلف عن تصدي الجيش السوري للأكراد انفسهم في الحسكة كما لو ان تركيا وسوريا حليفتان ضد «العدو» الكردي. في حين ان تركيا هي التي تشكل تهديداً مشتركاً للدولة السورية وللأكراد الذين يبقون رغم كل تحالفاتهم التكتيكية مكوناً سورياً ـ وإن تلاقت توجهاتهم الفكرية مع «حزب العمال الكردستاني» ـ الأمر الذي كان يفترض أن يدفعهما (دمشق والأكراد) للبحث عن تفاهمات مشتركة تبدد هواجسهما المتبادلة بوجه التدخلات الخارجية بدلا من الصدام.
ج ـ استفادت تركيا من التقارب مع روسيا لكي تكسر خطاً احمر روسياً كان قائماً بمنع الطائرات التركية من القيام بعمليات داخل سوريا بل لعدم اقترابها حتى من المجال الجوي السوري. اليوم خسرت روسيا ورقة الفيتو إلى الأبد مع مشاركة الطائرات التركية في عملية جرابلس ومع تغطية طائرات اميركا الأطلسية لتلك المنطقة. فهل من ثمن افتراضي جديد تراهن عليه روسيا، أم انها خدعت من تركيا فأصدرت بياناً بعد فوات الأوان يعبر عن قلق روسيا الشديد من التطورات على الحدود التركية ـ السورية؟
د ـ استفادت تركيا من الخلاف مع الولايات المتحدة الأميركية حول فتح الله غولن ودور اميركا في الانقلاب العسكري فصعدت إلى الحد الأقصى مع واشنطن لتقطف تنازلاً اميركياً كبيراً بدعم للعملية العسكرية وتغطية جوية لها. والعملية ما كان لها أن تتحقق لولا الضوء الأخضر الأميركي وحده دون غيره.
وهنا تكون الولايات المتحدة تضحي ببعض مكاسب الأكراد السوريين لمصلحة إعادة العلاقات إلى طبيعتها مع أنقرة عبر دعم هذه العملية، خصوصاً أنها تزامنت مع وصول نائب الرئيس الأميركي جو بايدن إلى أنقرة. كذلك تريد واشنطن من دعم العملية وقف مسار التقارب التركي (الافتراضي حتى الآن) مع روسيا وإيران. وربما يكون الذهاب إلى منطقة عازلة ثمناً لعدم تسليم غولن إلى تركيا.
مكاسب تركيا
حققت تركيا من عملية جرابلس الكثير من الأهداف بأقل الأثمان:
أ ـ حققت مطلب منع استكمال «الكوريدور الكردي» في سوريا.
ب ـ أسست لموطئ قدم مباشر في شمال سوريا لم يكن لها من قبل. من ذلك إقامة منطقة نفوذ لها من جرابلس إلى أعزاز بعدما عجزت عن ذلك على امتداد الأزمة السورية وهو يعني أنها ستكون على طاولة المفاوضات كفريق موجود داخل الأراضي السورية وليس من وراء الحدود. كما انها تستطيع من هذه المنطقة أن تنطلق في عمليات عسكرية أوسع في اتجاه منبج والباب في حال وجود تغطية أميركية لها بحسب الظروف. كما ستوفر هذه المنطقة حماية أكبر لمسلحي المعارضة في الشمال السوري وستكون العين التركية كما العادة على حلب، لكن هذه المرة لمحاولة تغيير موازين القوى على الأرض وإقامة طوق تركي حول الطوق السوري أي «طوق على طوق»!.
ج ـ نجح أردوغان بهذه العملية العسكرية في أن يعيد ترميم صورته التي انكسرت بعد الانقلاب وان يظهر بمظهر الرجل الذي لا يزال قوياً رغم الانقلاب. وهذا هدف كان بأمس الحاجة إليه.
د ـ وهذا ينطبق على الجيش التركي الذي تعرض لأكبر عملية تفريغ لقياداته بعد الانقلاب، وجاءت العملية لترفع من جديد معنوياته التي انسحلت تحت أقدام بعض المتشددين في الشوارع خلال الانقلاب.
هـ ـ كذلك فإن هذه العملية أيدتها كل القوى السياسية ما عدا الأكراد، وبذلك كان اردوغان يشد العصب القومي التركي والشارع ليزيد من دعم الشارع له، ويوظفه في أي استفتاءات او انتخابات مقبلة، ولا سيما في ما يتعلق بالنظام الرئاسي.
رغم كل هذه المكاسب، فإن التدخل العسكري التركي للمرة الأولى في سوريا قد يتحول، في حال عدم بداية مسار جدي للحل في سوريا، إلى مستنقع يغرق تركيا في مخاطر كثيرة وتهديدات إضافية لا يمكن توقع طبيعتها منذ الآن، تماماً مثلما لم يكن أحد يتوقع كل هذا المسار الذي شهدته الأزمة السورية منذ بدايتها.
في بعض الخلاصات حتى الآن:
1ـ إن تركيا كانت تنسق بشأن العملية مع واشنطن، وليس مع إيران ودمشق. ولا شك ان العملية العسكرية التركية بملابساتها وأدواتها واهدافها لن تثير ارتياح إيران وبالتأكيد دمشق، وتثير بعض الانزعاج الروسي، وهو ما سيلقي ظلالاً على ما سمي بالتقارب التركي – الروسي – الإيراني ويؤكد ما كنا نقوله ونكرره أن الاستدارة التركية مستحيلة وأن تركيا بحكم ارتباطها العضوي بحلف شمال الأطلسي لن تغير سياساتها إلا بالتنسيق مع واشنطن، وأن بيت الطاعة الآمن لتركيا هو واشنطن اولاً وأخيراً.
2 ـ لقد فشل المشروع الاردوغاني في المنطقة ولم يتبقَّ لاردوغان سوى هذه المئة كيلومتر. وهو مشروع كنا نقول إنه لن يستسلم ما دامت الأزمة السورية قائمة وما دام اردوغان على رأس هذا المشروع. إنه مشروع استعادة مرج دابق، وحلب هي الهدف المقبل.
3 ـ إن ما «تبيعه» تركيا من كيسها لمحور الممانعة والمقاومة ليس سوى تضليل وخداع وأوهام. وهو ما يفترض بأطراف محور المقاومة أولاً أن تعيد حساباتها التي لا يبدو انها كانت دقيقة، على الأقل في تفاؤلها، بشأن تغيير في الموقف التركي عندما اعتقدت ان بروز أنياب الليث التركي تعني الابتسام. وثانياً في إعادة النظر الجذرية في تحديد طبيعة التهديدات والمخاطر ومصادرها والتي يتعرض لها هذا المحور حيث عكست التطورات في السنوات القليلة الماضية، لا سيما في الآونة الأخيرة، خطأ المنطلقات الفكرية والسياسية التي ترسم طبيعة التهديدات والمخاطر.
صحيفة السفير اللبنانية