«مسرح الشمس» الأردني يحاكي نظيره الباريسي
«مسرح الشمس» الأردني يحاكي نظيره الباريسي…شهد الحراك المسرحي اليومي في عمّان نشاطاً غير مسبوق في عدد مسارحه ومستوى عروضه منذ انتهاء الأحكام العُرفية واستئناف الحياة البرلمانية بداية التسعينات، واستمر هذا الازدهار حتى مطلع الألفية الثالثة.
وعلى رغم التراجع الذي أصاب هذا الحراك في السنوات اللاحقة، فــإن هناك تجارب عدة نجحت في جذب الجمهور وتحقــيـق حالة تــفـاعـلية معه، قبــل أن يتوقف نشاطها في الفترة الأخيرة.
وفي بادرة مُبشّرة في هذا المجال، أُطلق مشروع «مسرح الشمس» الذي بدأ عرضَ المسرحية الكوميدية الساخرة «بَدْفع ما بَدْفع» التي ألّفها الإيطالي داريو فو، وإن كانت عروضه تقدَّم على فترات متباعدة.
تستهدف رسائل المسرحية التي أخرجها عبد السلام قبيلات، الإنسانَ البسيط المهمَّش المنتمي إلى الفئات الفقيرة، مظهرةً هيمنة طبقة الأثرياء على السلطة بوجوهها المختلفة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وتُبرز الأبنية العميقة للعرض، الطبقيةَ السائدة في المجتمع التي تكشفها الحوارات الساخرة على غرار «أولاد الوزراء يصبحون وزراء، وأولاد رؤساء الوزراء يصبحون رؤساء وزراء… وكل شيء تمام ما دام أن كل هذا تحت القانون».
وحاولت الرؤية الإخراجية النظر إلى أمام، وهي تحلّق عالياً فوق سوداوية المناخات المقيتة للحروب الداخلية والخارجية التي استهدفت المجتمعات المدنية والحياة الاقتصادية في مرحلة «الربيع العربي» وما بعدها. فغاص قبيلات وهو يقيم جسراً مع نص داريو فو، في الفضاء القاتم للإنسان العربي، وإلى ما آل إليه حالُه من تشظٍّ نفسي واجتماعي، بفعل تعثّر المشاريع القومية واليسارية وحتى التيارات الرأسمالية المنسوخة الممسوخة. أما الرسالة الأهم للعرض الذي صمم إضاءته خالد الزعبي، فتتمثل في انتقاد السياسات الحكومية العربية الاقتصادية ذات التوجّه الرأسمالي، والتي تزيد إفقار الشعب.
وعلى المستوى التقني، حرصت الرؤية الإخراجية على إشراك جميع الممثلين في تحقيق «البطولة الجماعية»، وذلك بخلاف النمط السائد عربياً، في اعتماد المسرح الكوميدي المباشر على البطولة الفردية لطرح محمولاته الفلسفية.
وبعد التأمل في المعطيات السابقة، التي تعدّ علامات دلالية رئيسة في المسرحية التي أنشأ ديكورها بهاء سلمان، يمكن عدّ «بَدْفع ما بَدْفع» بادرة طليعية في الحراك المسرحي العربي من حيث طبيعة الأهداف والوسائل، ومن حيث وجوه الشبه مع عروض «مسرح الشمس» الباريسي الذي أسسته آريان منوشكين في عام 1964، والتي سعت إلى تقديم معطيات مغايرة للسائد في المرحلة التي تلت الحرب العالمية الثانية، بعيداً عن سراب المقترحات البشرية من أفكار المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، التي تسببت بموت أكثر من 50 مليون شخص.
في المقابل، وفي ظل الاحتراب المأسوي داخلياً وخارجياً في مرحلة «الربيع العربي» وما بعدها، حاول مخرج «بدّك ما بدّك» التي وضع موسيقاها موسى قبيلات، تقديم فضاء جديد، مُتحلّلاً ومُتخفّفاً من أفكار الخطاب المسرحي السائد. وهو فضاء يدين الاحتراب الذي أدى إلى نتائج كارثية أعادت المجتمعات العربية القهقرى حضارياً.
يقول قبيلات الذي يتولى أيضاً الإدارة الفنية لـ «مسرح الشمس»، لـ «الحياة»، إن إنشاء هذا المسرح هدفه «سدّ الفراغ» الناتج من غياب المسارح التي تقدم عروضها في شكل متواصل طوال أيام السنة. ويضيف: «الأحزاب غائبة عن المشهد، ولا دور لها، والنخب السياسية مهمّشة في الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي، ما يحول دون إحداث أيّ تأثير فعّال، ويوقع الحالة الثقافية في الضحالة».
ويوضح أن الشيء المشترك بين تجربتهم وتجربة «الشمس» الباريسية، هو «التوجّه إلى الناس البسطاء، وتناول قضاياهم بأسلوب بسيط لا يخلو من عمق»، مستدركاً: «نحن لا نستنسخ في عملنا كل شيء من ذلك المسرح، وإنما نأخذ ما يناسبنا وينسجم مع ظروفنا».
وعن توظيفه نصاً عالمياً، على رغم أن مسرحه يلتفت إلى القضايا المحلية قبل سواها، يقول قبيلات: «النصوص العالمية مهمة جداً، ونحن جزء من العالم وتراثه الإنساني الذي يحاول الإجابة عن أسئلة البشر ومعالجة مشاكلهم أينما كانوا».
ويشير إلى أنه أفاد من مسرحية داريو فو «بَدفع ما بَدفع» في نقد النهج الاقتصادي للحكومات المتعاقبة في الأردن، وهو النهج ذاته الذي تتّبعه حكومات غربية بما فيها الإيطالية، فضلاً عن أن «رسائل المسرحية تدور حول قضايا المواطن هنا أو أي بلد آخر».