
خاص
حاول المخرج الشاب محمد حميرة تقديم نموذج مسرحي مختلف على خشبة مسرح القباني، فاستند في محاولته على نص للكاتب الراحل فؤاد حميرة الذي لم تشأ الأقدار أن يشهد يوم السقوط في 8 كانون الأول 2028 ، فتوفي قبل أشهر من هذا اليوم بعد نحو عامين من إثارة الجدل حول مسلسل (كسر عضم) الذي قال إنه يحاكي مسلسله “حياة مالحة”.
المسرحية التي شهدها مسرح القباني بدمشق عرضت بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لوفاته حملت عنوان (سوق الأسئلة)، المقتبسة عن روايته (رصاصة)، التي كتب عنها الناقد عبد الرحمن ربوع “إنها صرخة نَزَقٍ مدوّية في “وادي الرتابة” أو “أنها مطاردة دؤوبة لحلم، وركض لا هوادة فيه نحو غاية، فالتوقف حتى لالتقاط الأنفاس يعني النهاية، النهاية المظلمة في غياهب الفناء، حتى التباطؤ لا معنى له إلا اليأس والقنوط، وهو مرض مهلك لا محالة وآخرته موت سريري أو غيبوبة لا فواق منها.”
المسرحية قامت بتفكيك الفكرة، وقدمت عرضا صعبا، واللافت في هذا العرض أنه يعيدنا إلى المهارة التي يتمتع بها الراحل في كتاباته، فهو صحفي عمل في الصحافة السورية الرديئة (كفاح العمال الاشتراكي)، لكنه خرج منها قامة كبيرة في الرواية والدراما التلفزيونية، ولذلك لم يكن من السهل محاكاة مقاصده الفكرية والسياسية عبر أدوات المسرح المتواضعة التي تركها النظام السابق.
ورغم أن أداء الفنانين الشباب لم يكن بمستوى الفكرة ، وكان مجرد مواهب مسرحية تعرض نصا صعبا ،إلا أنهم يتحلون بجرأة تصل حد المغامرة، أو على الأٌقل حد المراهنة!
وتقوم فكرة النص على تعقيدات تصيب الشخصية الرئيسية التي تواجه قهرا اجتماعيا فتعيش في ازدواجية يؤججها القهر الاجتماعي وأدوات القمع في النظام القائم ، وهي كما ظهرت أدوات قمع مندمجة مع أدوات العدالة .
وأمام واقع (الفصام) وتداعياته في الصراع بين الشخصيتين المتولدين عن شخصية واحدة، أقحمت المسرحية شخصية ثالثة هي الكاتب، الذي يسقط مع الشخصيتين في الرصاصة التي يطلقها أستاذ الفلسفة على نفسه ، فتدوي في الصالة وكأنها أصابتنا نحن المتفرجين .
ويصف الناقد عبد الرحمن ربوع هذه الرصاصة (في الرواية) ، بأنها “رصاصة تُطلق من “مسدس صوت” لتعلن افتتاح سباق ماراثوني على مراحل بين ذوات نفسٍ واحدة أو نفوس ذاتٍ واحدة بحثًا عن سر الوجود الأندر “السعادة” أو كنز الحياة الأغلى “الحرية”. كما أنها رصاصة “خطّاطة” يطلقها مستغيث موشك على الغرق في بحر لُجيّ طلبًا لنجدة، أو تائه مع رفاقه في غابة ليدلهم على المخرج بعد أن وجده أخيرًا. وهي أيضا “خلبية” فقط لتهدد كل ما استقر في الوجدان من قيم ونُظم بفتح تحقيقٍ يطال أصل وفصل كل المسلمات والبديهيات بحثًا مفقودات وضحايا على رأسهم الحرية والكينونة والذاتية، وفي العموم ليست رصاصة قاتلة ولا رصاصة طائشة.”
وبين الرواية والمسرحية مسافة كبيرة، أبرز نقطة علام فيها أنها أعادت فؤاد حميرة إلى الخشبة بعد وفاته ، وبعد سقوط النظام .
إن المحاولات الجريئة لتقديم النص بهوية جديدة، من قبل المعد غزوان البلح وتأهيله ليتمكن الجمهور من استيعابه نجحت نسبياً، إلا أن مهارات الممثلين كانت بحاجة إلى تدريبات أوسع، أو ربما لم يكن للنص أن يلاقي النجاح المطلوب من دون مسرحيين محترفين قادرين على حمل الشخصيات الصعبة التي تلعب على الخشبة.
صحيح أن تفكيك النص مكّن الجمهور من متابعة المصير الذي آلت إليه الأحداث التي تعيشها الشخصية، وفهم الظروف القهرية المحاطة بها، لكن الأداء لم يكن على مستوى دهشة النص أو (الفكرة) الآسرة .
وأنا أسجل للمخرج محمد حميرة، الذي عاد إلى البلاد بعد سقوط النظام، مغامرة الشروع في محتوى آخر للمسرح في سورية، وهذا التأسيس لنوع جديد ، نحن بحاجة إليه، وعلى وزارة الثقافة أن تقدم له إمكانات كبيرة ليعيد الحيوية للمسرح السوري المسجى على خشبة (البروباغندا) والديماغوجيا السابقة.
كذلك تبدو هذه المسرحية خطوة جادة من (مديرية المسارح والموسيقى ) لبناء هوية جديدة للمسرح السوري في محتواه الاجتماعي والثقافي والسياسي ، وخاصة أن الأسماء التي شاركت فيه من مقتبس النص غزوان البلح إلى مخرجه محمد حميرة إلى الممثلين المشاركين فيه وهم: غزوان البلح – سيدرا جباخانجي – حسام سالم ــ نور العلبي – نور سليمان – جمال الدين زعير- بشرى كريم – لين شلغين – ندى شعبان. يسجلون خطوات نجاحهم الأولى .
بوابة الشرق الأوسط الجديدة