مسلسل الكندوش تجاوز الموسم الأول فنجح : الحارة الشامية أوضح ولكنها لم ترض بعد !
تابعتُ مسلسل الكندوش لأني قرأت عن استجابة الجهة المنتجة والإخراج لوجهات النظر النقدية التي ُطرحت حول تفاصيل الجزء الأول والمآخذ عليها، والتي أدت إلى اتهامات علنية وجهها كاتب النص الفنان حسام الدين تحسين بك إلى مخرجه الفنان سمير حسين بأنه حذف وغيّر..
وأتذكر أنه قبل سنتين دُعيت إلى أحد البرامج الإذاعية للحديث عن الجزء الأول من هذا المسلسل، وفوجئت أن كاتبه الفنان حسام يجلس قبالتي، بل ويبدأ حديثه بالسخرية من نقد وجه للنص دون أن يعرف أنني أنا الذي كتب ذلك النقد، ونتيجة الحوار، وتبيان وقائع تدعم وجهة نظري، أبدى احترامه وتوافقنا على المآخذ، وجرت حوارات أخرى هاتفية بيننا قرأت إثرها بعض كتاباته الجميلة.
وكنت مما طرحته في ملاحظاتي أن النص كان يحتاج إلى معالجة درامية إضافية قبل تصويره، وبالفعل خرج الجزء الثاني وقد قام الكاتب محمد العاص بإجراء تلك المعالجة، وهنا لا أعرف بالضبط ما الذي فعله الأستاذ محمد لكن من حقي أن أكتب عن النص كما تبدى على الشاشة مع الاحترام الكامل لصاحب النص الأساسي.
أول ما لفت نظري في الموسم الثاني أن تراجع دور الشرير (الحرامي) أفسح في المجال أمام أحداث وشخصيات أخرى أكثر أهمية في الحياة من إثارة وقائع السرقة والمكر، كذلك قدّم الجزء الثاني واحداً من أهم عناصر الصراع الدرامي، وهو ممارسة حق الدفاع للشخصيات بغض النظر عن طبيعة أدوارها (خير أم شر)، وهي مسألة تغيب كثيرا عن الدراما، اللهم إلا إذا كانت لكاتب مخضرم. فالحرامي يملك وجهة نظر تتعلق بسلوكه، وعلينا أن نسمعها، والعاشق يملك وجهة نظر تتعلق بعشقه وعلينا أن نسمعها، والعامل يملك وجهة نظر، وكذلك التاجر والمختار والحلاق وغيرهم، وعلينا أن نسمعها، وإلا كنا في صدد مقولات جاهزة قاصرة عن أن تكوّن الحياة كما ينبغي أن تعرض، وفي هذا الصدد يمكن التدقيق في أكثر من مشهد وخاصة الحلقة (20) لمراقبة التبرير الإنساني لسلوك البطل السلبي (الحرامي) الذي طرح الشر في الموسم الأول، وافتتح مساحة كبيرة لتفاصيل قادمة، فمن الطبيعي أن يعرف المجتمع أن الإجرام والتخريب يقوم على أسباب ينبغي تسليط الضوء عليها فد تكون في الأسرة أو في وسائل التربية.
إن إعادة بناء التصور الدرامي للموسم الثاني ل مسلسل الكندوش، خلافاً لما كان عليه الموسم الأول، رمم الكثير من فجوات لم نستطع في وقتها تحديد مسؤولية من عنها (المخرج ، أم الكاتب)، وشمل الترميم السياقات الدرامية وطبيعة أداء الشخصيات وأدوارها، وتمكن من نمذجة بعض الشخصيات لتصبح أهلا لعمل درامي .
وهذا الترميم كشف أيضاُ أهمية الملاحظة التي أخبرتُ بها الأستاذ تحسين، بأن هناك مشاهد مفتعلة أضرت في الجزء الأول من بينها أن أكثر من عشرين مشهداً عرضت بينه وبين الفنان أيمن رضا مضمونها قطع الشارع والسخرية منه، ولا علاقة لها بالتطور الدرامي للنص، ووافق وقتها ، لكن التعديل في الجزء الثاني كشف حتى عن إمكانية الاستغناء عن هاتين الشخصيتين اللتين كانتا في الموسم الأول أساسيتين (بحجم المشاهد فقط)، لأن حوارهما غير مبرر ولا يحتاج لتلك المساحة، وفي الموسم الثاني برز سؤال : ما الذي كان سيتغير لو ألغيت هاتان الشخصيتان، وهنا تقع المسؤولية على المخرج الذي أظهر المسألة وكأنها إرضاء للكاتب وعراب الإنتاج، على أرضية أنه لم يجد لهما مكاناً آخر (!!) .
الخط الدرامي المتعلق بمقاومة المستعمر الفرنسي، كان جميلا ، فهو يبطن الصراع الدرامي، فيضفي بظلاله عليه، لكنه لا يقولب النص بشعارات (بروباغندا) ، رغم الوضوح التام في كشف احترام هوية الشخصية الوطنية السورية (لاحظ شخصية عزمي بك ( أداء رائع من الفنان أيمن زيدان) وخط تشويه شخصيته الوطنية عبر شخصية ياسمين والبصارة)، وهذه ميزة نحتاجها اليوم أمام الخطابية الفجة والضعيفة لمسألة مقاومة الاستعمار، التي بدت أشبه بالكاريكاتير والهزلية كما حصل في أعمال أخرى.
وعمليا قدم الإخراج القوالب الفنية التي تليق بالحارة الشامية، في الجزأين معا، لكنه في الثاني كان أكثر قوة وسيطرة على موقع التصوير، ولم يبخل في إعطاء تلك الحارة ما تحتاجه من تفاصيل وإكسسوارات ونبض واضح ومدروس للحياة فيها رغم أنها مكلفة وغابت عن أعمال أخرى..
خرجت وجهة نظره الإخراجية المتعلقة بالمكان عن كونه (وعاء لا على التعيين) فيه مجموعة اكسسوارات وظلال شخصيات (كومبارس) لاستيعاب تفصيل حدث يجري فيه، أي تحولت الحركة إلى حركة (مجتمع) فهناك حركة في البيع والشراء، وهناك جٍمال وعربات وبضائع واكسسوارات وكومبارس مدروس، وهناك علاقة بين المكان والحدث والشخصيات، ولاشيء مجاني، وهذا عمل المخرج لكنه يحتاج إلى إشارات من الكاتب، وهنا نجح الطرفان في تقديمها لنا.
كذلك أعطى المخرج فرصة للممثلين ليتميز كل أداء وفقا لما يتطلبه الدور لا وفقا لما يريده هو (أي المخرج)، فإذا نحن أمام ثلاثة مستويات، الأول للبطولة الرئيسية، ولم نستغرب نجاحهم بتأدية أدوارهم، كالفنانين المعروفين أيمن زيدان وسلاف فواخرجي وفايز قزق وصباح وسامية الجزائري وسعد مينة وشكران مرتجى وكندا حنا وتيسير إدريس وأمانة والي وأندريه سكاف ، وتم تدارك الجمود في شخصية كندا حنا في الموسم الأول.
والثاني، وقد حمل ثقل التفاصيل الفعالة في المشاهد الدرامية وتطور الأحداث كعبد الفتاح المزين ونزار أبو حجر والياس الحاج وحازم زيدان وهافال حمدي فيما حمل سمة الصعوبة والتعقيد عند بعض الأدوار كما هو الحال عند خالد شباط وهمام أيمن رضا والفنانة الشابة الي لعبت دور ابنة سامية الجزائري المجنونة (لم أعرف اسمها بعد ).
فإذا كان من المآخذ على الممثلين أن أولاد الفنانين أخذوا مساحة من العمل، فإن أداءهم كان هاماً، وظهرت المواهب سريعا، واتسعت النجومية ، وإذا بوجودهم يغدوا نافعا على صعيد كشف المواهب، وهذا الأسلوب في الإخراج هو نوع من الديمقراطية التي تؤتي ثمارها الناضجة، أعطى الأدوار الصعبة والمعقدة لفنانين لم يدرجوا في بطولة الصف الأول من قبل، فّإذا نحن ، وإلى جانب النجوم الكبار المعروفين نراقب باهتمام الأداء المنافس للممثلين الآخرين (النجوم) الذين جعلوا هوية الشخصيات التي يلعبونها تدب بالحيوية.
وعلى صعيد التمثيل أيضا يفترض تقديم إشارة على غاية الأهمية للشخصيات في مسلسل الكندوش التي تشكل بحد ذاتها نماذج في النص الدرامي، وكيف قام الفنانون بتقديمها، كما هو التميز الكبير بأداء الفنانين فايز قزق في أدائه شخصية الحانوتي، وسعد مينة في أدائه لشخصية الفصامي، وسامية الجزائري بأداء دور الأم الظالمة والبخيلة، و تميز الياس الحاج في شخصية الصهر وأندريه سكاف في شخصية السكير .
هناك نماذج مكتوبة بعناية، وأداء تمثيلي فهم الشخصيات حق فهمها، وهذه الرؤية الإخراجية تكشف الستار عن ممثلين يمتلكون طاقات كبرى في التمثيل، وهذا نتاج قدّمه مسلسل الكندوش بسخاء، رغم الغياب المثير للتساؤل في فعالية الشخصية التي لعبتها حلا رجب، فهي ظلت هنا نجمة بلا عمل ، كان ينبغي أن ينتبه إليها المعالج الدرامي، وقد أشرنا إلى مثل هذا الخلل في الموسم الأول.
بقيت ملاحظة أخيرة، تتعلق بالحارة الشامية والدراما المنجزة عنها، فحياة السوريين غنية بكل أبعادها، وفي وثائق المدن التاريخية يمكن الكشف عن وقائع تتسق والمكان الذي نتحدث عنه، وعلى ذلك ليس الكاتب بحاجة إلى مبرر درامي ليفتح على تفاصيل الأحداث الأخرى ، كقصة حرامي، أو غيرها ، لذلك ورغم ما قيل عن تزايد أعمال البيئة الشامية، فإن هذه البيئة تحتاج لأعمال كثيرة لا تنضب في الأدب والدراما والسينما تبني على وقائع تاريخية من دون أن نقع في المحظور !