
خاص
في مسلسل (ليالي روكسي) للمخرج محمد عبد العزيز يجري الحديث عن حكاية أول فيلم سينمائي سوري غامَرَ أصحابُه في صناعته وإنتاجه قبل نحو قرن من الزمن، وهذا ما يُدخِل الدراما التلفزيونية السورية في محددات الدراما الوثائقية ومسؤوليتها، وخاصة أن التوثيق يتعلق بأول فيلم سينمائي سوري هو (المتهم البريء)، وهو فيلم أوردت أغلبية المراجع المتعلقة بتاريخ السينما السورية تفاصيل هامة عن ظروف إنتاجه، وهذا التاريخ موثق وناجز وموجود في حكايته وشخوص صناعته وهم : رشيد جلال، أيوب البدري، أحمد تللو، محمد المرادي، وديع بشير، ولوفانتيا الألمانية. وقد قام أيوب البدري بتأليفه وإخراجه وأنتج من قبل شركة حرمون عام 1928 .
وفي حكايته أنه “اجتمع بعضُ هواة السينما ممن يرغبون برؤية أنفسهم على شاشة السينما، وقرروا إنتاج فيلم روائي وهم: أيوب بدري، وأحمد تللو، ومحمد المرادي، واستوردوا آلة تصوير سينمائية ألمانية قياس 35 ملم من طراز «كينامو» عن طريق التاجر ناظم الشمعة، وقام رشيد جلال الذي كانت له محاولات في التصوير، بمساعدتهم على هذا الصعيد.
هذا جانب وثائقي من مغامرة الكتابة والإخراج والإنتاج، لكن الجانب الآخر يتعلق بتقديم البيئة الشامية بصورة مغايرة عما قدمت فيه سابقا في مسلسلات أثارت احتجاجات على الهوية الشامية وطبيعتها وأخلاقها ومستواها الحضاري.
أي أن مشروع (ليالي روكسي) حمل على عاتقه هاتين المهمتين، وكل واحدة منهما أصعب وأعقد من الثانية، ويحتاج التعامل معهما إلى جرأة وثقافة عالية من قبل القائمين على المشروع الذي هو ببساطة تداخل فذ للمشروع السينمائي بالمشروع الدرامي السوري.
في محاولة تكوين رأي عن المشروع السينمائي السوري، لابد من الاعتراف أنه مشروع فاشل، لم يصل إلى صناعة سينما سورية تليق باسم سورية إلا من خلال بعض أفلام المؤسسة العامة للسينما التي لم تستطع، رغم حصولها على جوائز عربية ودولية كبيرة، أن تؤسس لجمهور سينمائي واسع. وفشل هذا المشروع لا يعني التغاضي عن أهمية المحاولة ولا يعني أن الخطوة الأولى كانت رائدة فعلا، وقد توازت زمنيا مع انطلاق صناعة السينما العربية في مصر .
وكما غامرت شركة حرمون بإنتاج (المتهم البريء)، غامرت الجهات المنتجة والمنفذة (شركة أفاميا للإنتاج الفني وشركة قبنض وميديا دبي) بتبني المشروع ووضعه على طريق النجاح وإدخاله في المنافسة الرمضانية، وكما جرّب كتّاب المتهم البريء جربت ورشة الكتابة (شادي كيوان، معن سقباني، بشرى عباس) في محاكاته التي أشرف عليها المخرج نفسه محمد عبد العزيز.
كنا في الوثيقة أمام شخصيات اعتبارية طموحة تحاول فتنجح، فإذا بنا في المسلسل أمام كركترات تحاكي تلك الشخصيات وتحمل طموحاتها، وقد لا يكون ذلك خطأ في السيناريو والقصة الدرامية لكنه تحول إلى تحد للوثيقة، وهو تحد خطير يقدم عليه المخرج محمد عبد العزيز الذي ينتمي إلى التيار المتمرد في الدراما السورية، وما فعله وهو يكاسر الوثيقة التاريخية جعل الوثيقة بتصرف الدراما على عكس ما اعتادت عليه الأعمال الوثائقية المشابهة، ونلاحظ هنا أن مجمل شخصيات الوثيقة التي أنجزت فيلم (المتهم البريء) تحولت إلى كركترات (كوميدية) أحيانا يحركها المخرج ولايحركها المشروع التي كانت تعمل عليه في الوثيقة، وهنا لابد من الاعتراف بنجاح المخرج بتقديم بعض الكركترات الساحرة في الخطوط الدرامية الأخرى، إلى الدرجة التي كان يصعب فيها على أي ممثل في أي دور أن يمر من دون أن يترك أثرا لدى المشاهد، أي أن المخرج استثمر طاقات الممثلين على نحو أفضل بكثير مما استثمر بعضها مخرج آخر عندما ظهروا في أعمال أخرى ك (بيت أهلي) في الموسم الماضي !
وفي البيئة ، كنا أمام صورة لم تظهر من قبل عن طبيعة البيئة الشامية وهويتها وكانت تختفي سابقا كوجه حضاري، فتظهر الحارة كوجه متخلف يبني على الخنجر والصوت المرتفع والعراضة ، فتختفي أوجه الحضارة الدمشقية كالثقافة والسينما والمكتبة والصحيفة والتجارة والسوق، لكنها هنا تغلبت على الجانب الآخر، فبدت دمشق في ليالي روكسي غير دمشق التي احتضنت وجهين مختلفين من الفكر السياسي والحضاري، حتى أن ملابس المدينة في العشرينات اختفت منها (عبر الشخصيات الفاعلة) ملابس المرأة السورية كالملاية وظهرت بنات روكسي وكأنهن في الثمانينات من القرن الماضي، بل إن العلاقات الاجتماعية نفسها تجاوزت العصر الذي يحكي عنه المسلسل، فالفتيات عاشقات من دون تحفظ، والآباء متحررون من دون ضابط ، وكأن محمد عبد العزيز وطاقم الكتابة الذي معه قدموا شيئا غير متوازن فوقعوا في مطب الدراما الأولى في اصطفاف جديد، وهي تجربة أثارت لغطا في تجربته (شارع شيكاغو).
ومع ذلك خرجت دمشق بثوبها الحضاري الذي كان مغيبا فيما مضى، فقد زارها الفنان العالمي شارلي شابلن، وأثنى على أهلها، وتمكن طموح الهواة من إنجاز أول فيلم سينمائي، وظهرت المكتبات الثقافية التي كانت موجودة، وكان هناك بوسترات ولافتات ودعايات مدنية ، وغابت هوية العراضة والخنجر رغم بقائها في المشاهد كإشارات فقط من دون التأسيس الدرامي عليها.
كل ذلك هو (مغامرة) ، ولكن النتيجة أنها كانت آسرة وجعلتنا نتابع ونتحفز ونندمج مع المسار الذي تتحرك فيه الشخصيات وهي تصنع طموحها فتحبَط أحيانا وتنتصر أحيانا أخرى، وربما تكون الخطوط الدرامية التي تقوم بمهمة تشبيك الحكاية الوثيقة هي التي أنقذت العمل، وجعلته قادرا على المنافسة في الموسم الرمضاني، كخط الصراع بين الخط الوطني والخط المتماهي مع السلطات المستعمرة، وخط الصراع الاجتماعي وعلاقات الحب، ناهيك عن مفاتيح هذه اللعبة التي ذهبت إلى أبي خليل القباني عبر شخصية الطيرة (منى واصف) التي غنى لها أبي خليل أغنيته الشهيرة (ياطيرة طيري) وشخصية عبد الوهاب أبو السعود (دريد لحام) وتجربة النادي الشهير الذي أسسه.
إذن . ماذا يريد منا مسلسل ليالي روكسي ؟
هل يريد أن يقدم البيئة الشامية برداء جديد؟ نعم .
هل يريد أن يقدم صورة غير نمطية عن هذه البيئة ؟ نعم .
هل يريد أن يكشف المخفي؟ نعم..
وهنا أتذكر حديثي مع المهندس فراس الجاجة مدير الشركة المنتجة المنفذة، وكنت قد قرأت النص بالصدفة، فأثنيت على هذا التعاطي الجديد مع البيئة الشامية، وكان سعيداً برأيي. وعندما عرض المسلسل وسألني عن رأيي ، أخبرته أن الاتجاه الكوميدي خفف من قوة النص، فكان سعيداً أيضا برأيي لأنه كان يكافح في كل ما ينتجه لتقديم البيئة الشامية على نحو يكسر فيها الإنتاج القديم، فاعتمد على نص قوي، وأيد المخرج في توجهه الكوميدي ليصل إلى أكبر شريحة ممكنة من الناس، وهذه وجهة نظر قابلة للنقاش، وإن كانت لم تقنعني.
على كل حال ، لاتزال دراما البيئة الشامية مثار حوار بين النقاد والكتاب وصانعي الدراما، وإذا كانت ليالي روكسي قد كسرت المعطيات التي ظهرت في كل ما سبقها، فإن ما سيظهر بعدها سيجعل الحوار مفتوحاً بشكل أوسع بين المدافعين عن هذه البيئة وأصالتها.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة