مسنون أكثر حداثة من الشباب

 

ليس بوسعك إلاّ أن تشكر هذه الحياة التي أتاحت لك فرصة معاصرة ومعايشة أحداث ووقائع وكوارث وظواهر وحروب  وفتوحات وإنجازات كان سيحسدك عليها حتما من عاش قبلك أو من سوف يعيش بعدك.

من حقك أن تفخر يا إنسان القرن الواحد والعشرين بأنك تضع قدميك فوق قرنين شامخين تتناوب فيهما الأيام الطاسات الساخنة والباردة والفاترة على رؤوسنا الصغيرة منذ ستّينات القرن الماضي، فهاهو الإنسان يظهر عبر الشاشات يدوس شعريّة القمر وخرافته ويقفز فوقه ككرة البينغ بونغ، وذاك مذنّب هالي يشقّ سماءنا في رحلته الأبديّة التائهة أمّا الشمس  التي انكسفت بدورها  أمام طبيعة تغضب زلازل وحرارة تنحسر و جليدا يذوب كل يوم.

كلّ هذا شكل لوحة خلفيّة لحروب تريد تغيير الخرائط وجدار يسقط لترتفع جدران أخرى غير مرئيّة، وأسماء مبتكرة لأمراض نظنّها أيضا مبتكرة لم تفدها مبتكرات واستنساخات علميّة، ولو نظر إليها الأقدمون  لقالوا ” ما هذا إلاّ سحر مبين “.

كيف لك أن تحاور أناسا لم يشهدوا هذه الدراما الهائلة في حياتهم أو لم يتفاعلوا معها!.. كيف لك أن تقنع من ولد في جلباب أبيه أنّ الصوت الجميل ليس عورة و أنّ  الشارع ليس ملكا له وحده، وأنّ الأفكار لا تنتظر التأشيرة عند  الحدود وأنّ أسراره  لم تعد أسرارا.

ولكن… هل أنّ سنّ الشباب وحده كفيل بجعلك أكثر حبّا للحداثة والتطوير والتجريب والمغامرة؟

كثيرا ما نلتقي بشباب في عقلية آبائنا وأجدادنا، ونصادف مسنين أكثر منّا جرأة ومواكبة للعصر, كثيرا ما نلتقي بنقاب داخل رأس سافر وبحداثة داخل عباءة تقليدية، وبأقنعة تحت الجلد وبتخلّف يتستّر بمفردات الحداثة ويتزين بها على سبيل الخديعة.

أو ليست غالبيّة عناصر الجماعات المتطرّفة من التكفيريين  والمنظّرين لثقافة الموت والانتحار من جيل الشباب؟.. ما هذه الردّة السلفيّة إذن و ما الذي جعلها  تجتاح مجتمعاتنا في وضح النهار وما أسبابها؟.

جوهر السبب في اعتقاد كل من درس الظاهرة، يعود إلى غياب ثقافة الاعتدال والقبول بالآخر فمن تربّى على الأحاديّة والنمطية، سوف يظلّ أحادياّ سواء كان في اليسار أم في اليمين والقضيّة تتعلّق ببنية التفكير وآلياته قبل الفكر وإنتاجاته.

التطرّف ما هو إلاّ حالة بحث “دونكشوتيّة”عن مخلّص إزاء الأزمات المعيشية والحياتية حين يفقد واحدنا الأمل والأعصاب في ذات الوقت, أمّا المسؤولية فيتحمّلها الحاكم والمحكوم, الماضي والحاضر وكل الأجيال في ذات الوقت.

الأجيال، تلك هي المسألة.. ما لدينا هو أجيال تتخاصم ولا تتحاور بل جيل تتخاصم فيه أجيال وأهواء وحساسيات متنوّعة.

شخصيّا لم يخطر ببالي أن أسأل نفسي يوما: إلى أيّ جيل أنا أنتمي, ذلك أنّ قناعتي ضعيفة ومهتزّة بجدوى  تقسيم الوعي البشري إلى فئات عمريّة دون اعتبار للمكان وخصوصياته الملتبسة وللشخص ومرجعياته المتلوّنة.

هل ثمّة خيط ناظم حقّا لفئة تشكّل وعيها على أحداث ووقائع وتطوّرات  صاغت نمط عيشها وتفكيرها فجاز لنا أن نضعها في سلّة واحدة إلى جانب خانات أخرى مصنّفة وموثّقة و مؤرشفة حسب منطق الروزنامة.

ما المقصود بعبارة ” فلان سبق عصره”.. وآخر “يواكب عصره”، وثالث “يعيش خارج عصره؟.. بل ما هي المقاييس الدقيقة للاقتراب أو الابتعاد عن العصر؟

أين الحدود الفاصلة بين المواكبة والاحتجاج والانكفاف؟.. هل نتمكّن يوما من القبض على تعريف جامع مانع لمعضلتي الأصالة  والمعاصرة أم أنّ قدر هذه المفاهيم أن تبقى زئبقيّة وعصيّة عن الإمساك بها؟.

أنت شاهد يمكن أن يكون مزوّرا على جيل جايلته  وجايلك غصبا عنك،  هل يتنكّر لك وتتنكر له، وأنت الذي يدّعي أنّه قد  محا الفارق اللفظي بين شاعرين مثل سان جون بيرس ومحمود درويش، وبين الأخير والمتنبي، وكذلك بين الطربوش والكاسكيت والبيانو والربابة، أو فلنقل بين الغزالي و ابن رشد، وبين مسرحنا ومسرحهم.. وبين جيلنا وجيلهم؟

قبل أن نلوك عبارة تقليديّة اسمها “صراع الأجيال”  لنلتفت إلى بيتنا ونحاول ترتيبه ـ قدر الإمكان ـ تحت يافطة عنوانها “حوارات جيلنا في جيلنا عن جيلنا ولجيلنا”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى