“مشاهد من شينجيانغ” ملحمة تاريخية لحياة الويغوريين

 

رُشح الكاتب الصيني وانغ منغ لجائزة نوبل للآداب على مدار أربع سنوات متتالية، كان آخرها عام 2003، وجاء الترشيح لأنه قدَّم في السنوات الأخيرة أعمالًا ذات قيمة كبيرة، فأثرت تاريخه الأدبي الطويل الحافل بإنجازات أدبية ضخمة جسدت ببراعة تاريخ الأمة الصينية ونضال شعبها؛ فهي تكاد أن تكون ملاحم شعرية حُفرت في ذاكرة التاريخ. وهذا الرواية “مشاهد من شينجيانغ” التي ترجمتها وقدمت لها الكاتبة والمترجمة المتخصصة في ترجمة الأدب الصينى الحديث والمعاصر ميرا أحمد تشكل نموذجا فريدا في أعماله، وقد حصلت على جائزة “ماو دون” الأدبية التي تعد أعلى جائزة في الأدب الصيني.

في مقدمتها للرواية الصادرة عن دار البوصلة بالإمارات استعرضت ميرا أحمد مسيرة وانغ منغ مؤكدة أن أعماله مزجت في الثمانينيات بين معاناة الأمة ومعاناة أبناء الوطن، وقالت: “اهتم وانغ منغ بتجسيد المشاعر الإنسانية والروح الاجتماعية؛ فلم تجسد أعماله الأدبية الروح المثالية فحسب، بل تأملت في تاريخ الأمة ومستقبلها وكشفت كوارث الثورة الثقافية في تلك الفترة”.

ورأت أن وانغ منغ ساهم في خلق جيل من الكتاب الجدد الذين يتمتعون بشهرة عالمية، وتمتع بمهارات إبداعية فريدة ومبتكرة، وخبرات حياتية غير عادية وذاعت شهرته بأنه رائد الرواية في تاريخ الأدب الصيني المعاصر. أشاد بجهوده الأدبية الكثير من الأدباء ووصف تشانغ واي رئيس رابطة الكتاب في مقاطعة “شاندونغ” مشواره الأدبي بأنه “درب التجارب والصعاب”، وقالت عنه الكاتبة تيه نينغ رئيسة اتحاد الكتاب الصينيين: وانغ منغ شخصية ثرية ومعقدة، كاتب قدم إسهامات عظيمة في الأدب الصيني المعاصر في كافة أنماطه الأدبية من قصة ونثر وشعر ودراسات الأدب المقارن والدراسات البحثية في الأدب الكلاسيكي الصيني”.

“مشاهد من شينجيانغ” ظلت قرابة الأربعين عامًا مجرد مخطوطة لا يعرفها القراء، والآن سطعت شمسها والتمع اسمها في سماء الأدب، ولن يخبو سناها إلى آخر العمر

وأضافت ميرا أحمد أن وانغ منغ يتمتع بإحساس فطري عال وروح استكشافية سبرت الأغوار الإنسانية وغاصت في عوالمها الداخلية، وبعد نهاية الثورة انطلقت موجة جديدة من أدب التأملات، وكان أحد القوى الأساسية الإبداعية في أدب التأملات، الذى راح يتأمل في تاريخ الأمة ومستقبلها. وكشفت أعماله عن مساوئ الثورة الثقافية وتشويهها لصورة المثقفين الشباب وتدميرها للمجتمع، والتعاطف البالغ مع ضحايا الثورة من الشباب. واتسمت لغته بطابع شعري، وكأن أعماله الروائية نصوص شعرية أو نثرية ذات مذاق خاص، وفي بعض الأحيان كانت لغة صادمة تتماشى مع حجم المعاناة في تلك الفترة”.

ولفتت إلى أن أعماله عكست رحلة الشعب الصيني على درب الحياة المليء بالأشواك، وقدم إسهامات عديدة وابتكارات جديدة في العمل الأدبي حتى أصبح واحدًا من أهم الكتاب الذين أثروا الأدب الصيني المعاصر، وحافظوا على حيوية الطاقات الإبداعية في ذلك الوقت. تحول من الاتجاهات الأدبية البدائية إلى اتجاهات أكثر نضجًا وعمقًا. لقد فتح وانغ منغ آفاقًا جديدة محلية للكتابة الأدبية في تيار الوعي الذى يفوق في أهميته تيار السرد النظامي للعالم الخارجي، إذ يصور الكاتب المشاعر والأفكار المتدفقة التي تمر في عقله. وقد اتسمت روايته في الثمانينيات التي تنتمي إلى تيار الوعي بالنهايات المأساوية برسم شخصيات قد جسدت ضحايا الثورة الثقافية وقد اختلف تيار الوعي لديه عن تيار الوعي الشائع لدى بقية الكتاب؛ فقد أطلق عليه بعض الباحثين تيار “الوعى الثوري” الذى راح يستكشف من خلاله أنماطًا سردية مبتكرة في الكتابة الأدبية، ويلقي بالضوء على ما فعلته الثورة الثقافية في نفوس شبابها.

وأشارت ميرا أحمد إلى أن وانغ منغ نوى في أواخر عام 1963 ترك عمله أستاذًا في جامعة بكين للمعلمين والذهاب إلى “شينجيانغ”، والسبب الأول وراء هذا، هو إثراء تجربته الإنسانية، والسبب الثاني هو عدم احتماله لظروف البيئة الأيديولوجية في بكين، والثورة المستمرة في ظل ديكتاتورية البروليتاريا جعلته في حيرة من أمره. فرأى أنه من الأفضل الذهاب إلى الحدود التي تعيش بها الأقليات العرقية في مجتمعات صغيرة، وهناك لن يجد صعوبة في الحديث عن الوحدة الوطنية وحب الوطن ووحدة الأمة. وفي عام 1964 ذهب إلى “شينجيانغ” وأمضى أربعة أشهر ثم توترت الأجواء السياسية بشكل كبير، وفي عام 1965 بموجب قرار لجنة الحزب لمناطق الحكم الذاتي انتقل إلى منطقة “إيلي”، وشغل منصب نائب قائد الفيلق الثاني في كومونة اللواء الأحمر في محافظة “يينينغ”. واندمج مع الفلاحين وعاش معهم وأتقن اللغة الويغورية، واستقبله الفلاحون بحفاوة كبيرة.

وأضافت: في عام 1974 بدأ في كتابة “مشاهد من شينجيانغ”، وعلى الرغم من أن الأحوال لم تكن طبيعية بصورة كافية، إلا أنه استفاد من حبه لأبناء الويغور وفهم طبيعتهم بدرجة كبيرة، وراح يصور مشاهد الحدود ومصائر الشخصيات، ويكتب عن الخصائص النفسية والثقافية لأبناء الويغور وحياتهم اليومية. في ذلك الوقت كانت “شينجيانغ” تعانى الصعود والهبوط، خاصة عام 1962؛ فقد تركت حوادث الفرار من مناطق “إيلي” و”تشنغ” إلى الاتحاد السوفيتي ندبات في عقول الكثير من الناس، فضلًا عن حركة التعليم الاشتراكي في الريف عام 1963 و1964 و1965، وبيان الزعيم ماو تسي دونغ حول “قضايا اليمين واليسار”، فقد أعطاه مساحة في أعماله الأدبية لكشف فساد اليسار وما جلبه من أضرار للمواطنين. فمن ناحية لم يستطع الخلاص من انتقاد النضال الطبقي ومعاداة الإمبريالية في أعماله، ومن ناحية أخرى راح يعادي زيف اليسار وخداعه. وسرد الكثير من الخصائص القومية وتفاصيل دقيقة عن حياة الويغوريين والتعبير عن المصير التاريخي. وفي عام 1978 انتهى من كتابة “مشاهد من شينجيانغ” وكانت الثورة الثقافية قد انتهت، وارتكز النضال الوطني على مقاومة “عصابة الأربعة” وإظهار المساوئ والكوارث التي خلفتها الثورة الثقافية. وشعر وانغ منغ بأن الرواية لا توائم أحداث العصر والظروف السياسية المحيطة، فأغلق الرواية طيلة ثلاثة وأربعين عامًا”.

يقول الكاتب وانغ منغ: “في عام 2012 كانت المفاجأة حينما عثر ابني على المخطوطة في خزانة غرفة النوم في البيت القديم، وبتشجيع من العائلة نشرت الرواية عام 2013”. ويقول النقاد إن وانغ منغ كتب هذه الرواية في ظل ظروف غير طبيعية بعد الاستماع إلى أصوات الحياة والطبيعة البشرية والأصوات الأدبية، فهي صورة معاصرة لحياة الويغوريين”.

ويقول وانغ منغ: “لا أعلم إذا كان هذا هو القدر أم الحظ! فالروايتان الأكثر تأثيرًا في مسيرتي الأدبية قد خرجتا إلى النور بعد عقود؛ الأولى هي “سنوات الشباب” بدأت كتابتها عام 1953 وانتهيت منها عام 1956، وخرجت إلى النور عام 1979، وتم تجميدها ما يقرب من ربع قرن”. “وسبب الرفض أن الرواية لم تصف حياة الثورة الثقافية والفلاحين والعمال”. والرواية الثانية “مشاهد من شينجيانغ” التي بدأتها عام 1973 وانتهيت منها عام 1978 ظلت حبيسة الأدراج طوال أربعين عامًا، والسبب أن موضوعها يتناول الثورة الثقافية والصراع الطبقي وتمجيد الشخصيات والمراجعات، وفي النهاية نشرت عام 2013″. فالأولى كانت تفتقر إلى الثورة والثانية كانت ثورية.. ثورية جدًا! أما عن “سنوات الشباب” فمنذ 1979 حتى الآن فقد طبعت منها نسخ متكررة، وصارت في متناول القراء بعد أن ظلت حبيسة الأدراج لسنوات، ولاقت نجاحًا كبيرًا.

وتوضح ميرا أحمد أن الرواية تحكي في سياق حركة التطهيرات الأربعة، عن حادث سرقة المواد الغذائية داخل الفيلق الوطني لإحدى الكومونات الشعبية في منطقة “إيلي”. تكشف الرواية عن الصراع الطبقي وتحريض الاتحاد السوفيتي على الهروب وترك الوطن وزرع أعداء داخل الوطن وإحداث أعمال الشغب وتعطيل حركة الاشتراكية في الصين الجديدة. وتتخذ الرواية من منطقة “شينجيانغ” خلفية تاريخية وثقافية، وتقدم للقارئ بانوراما للحياة الغربية الحديثة، وفي الوقت ذاته تعكس حياة قوميتي “هان” و”الويغور” في ظل خلفية تاريخية خاصة، والتفاهم والاندماج بين أبناء القوميتين وإظهار العادات الفريدة والسمات الخاصة للقوميتين وإظهار أواصر الصداقة بينهما، من خلال تصوير الحياة اليومية للشخصيات الكثيرة التي تتدفق عبر فصول الرواية ومن خلال الصراعات التي تتسم بالحيوية والتشويق.

وصف الكاتب وانغ منغ الحياة الريفية في منطقة “شينجيانغ” من خلال تجربة حياتية طويلة عاشها بنفسه. وتعد “مشاهد من شينيجانغ” رواية ذات قيمة أدبية عالية، لأنها ما زالت قادرة على جذب المزيد من القراء لسنوات عديدة؛ فالحقبة التي وصفها وانغ منغ هي حقبة زراعية للصين وبرع في تسجيلها بدقة في منطقة للأقليات. قال وانغ منغ إن أكثر الأشياء التي يفخر بها أثناء إقامته في “شينجيانغ” هو إجادته للغة الويغورية سريعًا، حتى أنه يرى أنه يتقنها أكثر من أبناء الويغور الحقيقيين.

وقال الناقد الأدبي المعاصر يي كاي واي عن رواية “مشاهد من شينجيانغ”: “الرواية مليئة بالأحداث السياسية المكثفة وقد أكملت السياسة الناقص في وانغ منغ، لكن في الوقت نفسه قد فرضت القيود على تفكيره الأدبي وحدّت من الابتكار الأدبي في جوهره؛ فالأدب والسياسة في بعض الأحيان يتفقان، وفي أحيان أخرى يتعارضان بشدة. فالتشابك الشديد مع الأحداث السياسية يعوق نقاء الأدب والارتقاء به”.

وأكدت أن الرواية تعد ملحمة تاريخية لحياة الويغوريين في منطقة “شينجيانغ” في ظل أوضاع سياسية غير مستقرة؛ فتعرض لحياة الكومونات الشعبية وتطبيق الاشتراكية، والصراعات الطبقية الدائرة في المجتمعات الريفية، والأعداء الخفيين الذين كان الاتحاد السوفيتي يدفع بهم لتفكيك نسيج الأمة وإثارة البلبلة والقلاقل وإشعال فتيل الفتنة الطبقية، في جو تشويقي مثير من خلال شخصيات رئيسية عديدة جميعهم أبطال، ليصل في النهاية الصراع إلى أقصى مدى بين الشخصيات، ونرى المصير الذي أفضت إليه كل شخصية كونه نتيجة طبيعية لمشوارها على الدرب الذي اختارت أن تسلكه بكامل إرادتها.

وحول تحمسها لترجمة الرواية قالت ميرا أحمد “كيف لا أتحمس إلى ترجمة مثل هذه الملحمة التاريخية، وبذل كل جهد ممكن لتقديمها إلى القارئ العربي لفتح نافذة فكرية جديدة، وعالم أدبي جديد أمامه حينما تسنح الفرصة، ومثل هذه الفرص الذهبية لا تتكرر كثيرًا. في عام 2015 جاء وانغ منغ في زيارة إلى مصر لإلقاء ندوة أدبية وكنت أحد الحضور، وتزامنت مع صدور “مشاهد من شينجيانغ” في نسختها الصينية، وراح الكاتب وانغ منغ يوقع النسخ بعد انتهاء الندوة. ويومها أهداني الرواية، ثم طلبت منه ترجمة بعض أعماله القصصية القصيرة، فلم يعارض ورحب بمبادرتي. ثم ترجمت له بعض القصص القصيرة والنصوص، وكانت الترجمة العربية الأولى لهذه الأعمال، ونشرت في ملف كامل في جريدة أخبار الأدب المصرية، وفي ذات العام جاءني التكليف بترجمة “مشاهد من شينجيانغ”. ورغم الصعاب التي واجهتني في ترجمة هذا العمل الضخم المكون من جزأين، بسبب الخلفية التاريخية والثقافية للعمل واللغة الويغورية في بعض مواطن الرواية، فضلاً عن الأسلوب الأدبي الرصين للكاتب وانغ منغ، لكن في ترجمة مثل هذا العمل الرفيع يهون كل التعب وتذلل كل الصعاب. وما أهون التعب في سبيل تحقيق الأحلام! وقد تزامن مع مشروع ترجمة الرواية إلى اللغة العربية ترجمتها أيضًا إلى اللغة الإنجليزية، ومن المتوقع ترجمتها إلى لغات أخرى في السنوات القادمة.

ظلت “مشاهد من شينجيانغ” قرابة الأربعين عامًا مجرد مخطوطة لا يعرفها القراء، والآن سطعت شمسها والتمع اسمها في سماء الأدب، ولن يخبو سناها إلى آخر العمر. وكيف يخبو الشهاب الوضاء ومبدع هذه الملحمة؟! وهو لا يمثل الأدب الصيني المعاصر فحسب، بل هو في حد ذاته الأدب الصيني المعاصر.. هو الكاتب الكبير وانغ منغ.

 

 

 

 

ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى