مصارحة فرنسيّة ـ روسيّة

في لقاء جرى مؤخّراً في باريس، اعترف مسؤولون روس وفرنسيّون أنّ الشرخ القائم بين أوروبا وروسيا أضحى عميقاً. لقد ضاعت منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق فكرة الحلم المشترك الذي ارتسم في الأفق حينذاك حول أوروبا الكبرى. وباسم الانتصار النهائي للرأسماليّة و «نهاية التاريخ»، قضمت أوروبا بعض دول أوروبا الشرقيّة من آليّات اتحادها وحلف الأطلسيّ، وقسّمت يوغوسلافيا السابقة. بينما جهدت روسيا لإعادة بناء ذاتها وإنشاء فضاء أوروبي – آسيويّ (أوراسيّ) مع الصين ينافس أوروبا الغربيّة.

لقد انفجرت أزمة أوكرانيا والقرم لتوسّع هذا الشرخ، الذي لم يتمّ احتواؤه سوى عبر رغبة الطرفين في عدم خوض حربٍ مدمّرة على الأرض الأوروبيّة. وما تمّت ترجمته باتفاقيات مينسك. ليست العقوبات على روسيا هي التي دفعت إلى التوافق على حلّ براغماتيّ على أساس «الواقعيّة السياسيّة realpolitik»، لأنّ هذه العقوبات قد أدّت إلى تنشيط صناعات استبدال الواردات في روسيا، وأضرّت بأوروبا بقدر ما أضرّت بروسيا.

أمّا أزمة الشرق الأوسط، فما زالت تشكّل عقدةً خارج السيطرة في ما يتعلّق بتطوّرات أحداثها. ويعي الطرفان أنّ المنطقة دخلت في مرحلة زوابع وأنّ استقرارها قد تقوّض لأمدٍ طويل لأسبابٍ اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة، وأنّها لن تعرف عودة الاستقرار إلاّ بعد فترةٍ طويلة.

تعاملت أوروبا مع تطوّرات «الربيع العربيّ»، كما تعاملت مع دول البلقان بالعقوبات الاقتصاديّة أو التدخّل العسكريّ المباشر عبر القصف الجويّ. لكنّ الاختلاف هنا أنّها لا تستطيع تقديم أيّ مكافأة إيجابيّة لدول الجنوب مثل الانخراط في الاتحاد الأوروبيّ. وكان الانعطاف الأكبر هو التدخّل الفرنسيّ – البريطانيّ في ليبيا الذي ضرب أسس الدولة الليبيّة وأوقع البلد في فوضى لن تنتهي قريباً. ما سيكون له تداعيات كبيرة على الدول العربيّة، كما على إفريقيا وأوروبا نفسها. لم تغفر روسيا كيف تلاعبت أوروبا على قرارٍ لمجلس الأمن كي تستخدمه لهذا الغرض، وتوافقت في ما بعد في هذا الأمر مع إدارة أوباما التي لن تسمح باستنساخ التجربة في سوريا.

يعترف الطرفان أنّ هناك اختلافاً جوهريّاً بين أوروبا وروسيا في النظرة إلى الإسلام السياسيّ ودوره في مستقبل المنطقة. فالأوروبيّون، والفرنسيّون خاصّة، مقتنعون بأنّه القوّة الوحيدة المنظّمة في مناخ التطوّرات الاجتماعيّة في المنطقة، وبالتالي القادرة على صنع الاستقرار، خاصّة أنّه يحصل على دعمٍ كبيرٍ من جهات ثريّة. فلا بأس من هيمنتها فترة كما هيمن الخميني على إيران منذ ثورة 1979. في حين يرى كُثُر غيرهم أنّه يحمل في طيّاته، إذا هيمن وحده، فكر الجهاديّة الإسلاميّة الذي أدّى إلى بروز «داعش» و «النصرة» و «القاعدة» وتطوّرهم الكبير، حتّى في تونس. قناعة الأوروبيّين تأتي من الإحساس بضعف الفكر والقوى العلمانيّة والديموقراطيّة في البلدان العربيّة وشرذمتها وغياب القيادات التي يُمكن أن تحمل رسالتها. وقناعة الروس، وإدارة أوباما كذلك، تأتي من أنّه لا يُمكن استنساخ التجربة الإيرانيّة في البلدان العربيّة. إذ إنّ إسلام إيران السياسيّ يحمل بين جنباته نزعة قوميّة فارسيّة عمرها آلاف السنين، في حين تواجه إسلام العرب السياسيّ تاريخيّاً مع العروبة والوطنيّة «القطريّة» كهويّة.

كلّ هذا له تداعياته من اليمن إلى مصر. ويبرز في محاولة إيجاد مسار للحلّ السياسيّ في فيينّا بعد التدخّل العسكريّ الروسيّ في سوريا.

من هنا تكمُن الخطوة الجوهريّة الأولى للدول المشاركة في فيينّا في التوافق على مَن هو المتطرّف والإرهابيّ بين المعارضة المسلّحة. ثمّ التوافق على مسار سياسيّ لا يسمح باستعادة التجربة الليبيّة بعد التغيير، ويحافظ على وحدة سوريا التي تختزل فكرتها ضمنيّاً مشاكل الشرق كلّها من تواجد طوائف إسلاميّة خارج سياق مذاهب السنّة والشيعة السائدين، إلى كنائس انطاكيا، إلى الشعور القوميّ المتصاعد للكرد.

أحد العقلاء الأوروبيين النادرين أشار في نهاية اللقاء الروسي – الفرنسيّ إلى أنّ سوريا كما العراق دول قديمة عريقة، لها وطنيّة راسخة، منذ مئة سنة، بقدم وعراقة معظم الدول الأوروبيّة وبرساخة مواطنيّتها.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى