مصالح مصر الوطنية ومصالح «الإخوان» الفئوية (مصطفى اللباد)

 

مصطفى اللباد

منذ نجاح حركة «تمرد» الداعية إلى تظاهرات نهاية شهر يونيو/حزيران الجاري لإسقاط الدكتور محمد مرسي في جمع توقيعات من عموم المصريين، يقدر عددها بخمسة عشر مليون صوت، يخرج علينا الجالس على مقعد الرئيس المصري بتصريحات نارية حول قضايا تقع في صميم أمن مصر القومي، محاولاً استغلالها لمصلحة استمراره وجماعته على مقاعد السلطة في مصر. لا تناقش هذه السطور صوابية مواقف مرسي من قضيتي سوريا ومياه النيل، اللتين يتم توظيفهما بكثافة هذه الأيام لخدمة مصلحته وجماعته، وإنما تساجل في جواز استخدام مصير الوطن وقضاياه الكبرى لأغراض فئوية، وبطريقة دعائية فجة تضرّ بالقضيتين معاً بعد أن تمس بمصالح مصر العليا فيهما. تتخطى الإدارة المصرية الحالية (مع الاعتذار من كلمة إدارة) خطوطاً وطنية حمراً، في سعيها المستميت للاحتفاظ بسلطتها الحالية، عندما تخصم من رصيد مصر الباقي في المنطقة بتصريحات أقل ما يُقال فيها إنها غير مسؤولة وتضر بمصالح مصر الوطنية. تحاول هذه السطور تحليل مصالح مصر الاستراتيجية الثابتة في قضيتي سوريا ومياه النيل، ومن ثم مقايسة الأداء الإخواني فيهما، وصولاً إلى توضيح الإفلاس الفكري والاستراتيجي للإدارة المصرية الحالية.

مصالح مصر الوطنية في سوريا

تمثل سوريا لمصر النافذة التاريخية للإطلال على قضايا المشرق العربي، مثلما تشكل الرافعة التي لابد منها كي تستطيع مصر أن تلعب دوراً إقليمياً. ويمكن التثبت والتأكد من هذه الحقيقة على مدار تاريخ مصر القديم والحديث، إذ أن قيامة مصر الإقليمية لا يمكن أن تتحقق إلا بالتحالف/التأثير على السياسة السورية. كانت هذه هي حالة مصر في عهودها المضيئة واللامعة، التي خرجت فيها خارج حدودها لحماية مصالحها الوطنية والمشاركة في تقرير مصير الإقليم. وذلك منذ عصر رمسيس الثاني العظيم قبل الميلاد، مروراً بحكم الفاطميين والأيوبيين والمماليك، وانتهاء بفترات حكم مؤسسي دولتها الحديثة: محمد علي وعبد الناصر. تقوى مصر إقليمياً ـ بغض النظر عن شخص حاكمها ـ كلما قوي نفوذها في سوريا، وبالمثل تضعف كلما ضعف نفوذها هناك. الحد الأمثل للمصالح المصرية في سوريا هو التحالف معها أو التأثير في سياستها، والحد الأدنى الذي لا يمكن التنازل عنه هو منع أي تقسيم محتمل لسوريا. ومرد ذلك أن التقسيم أو التفتيت سيجعل إطلالة مصر الشرقية مسدودة بثلاث حوائط جغرافية متتالية لا يمكن تخطيها: صحراء سيناء القاحلة مع قلة سكانها، ومن ثم دولة الاحتلال الإسرائيلي التي تقطع اتصال مصر بالمشرق العربي، وبعدهما سوريا مفتتة ـ لا قدّر الله ـ ما يعني انكفاءً مؤبداً لمصر داخل حدودها. هذا هو درس التاريخ بغض النظر عن اسماء حكام مصر وحكام سوريا، وبالتالي عند تناول الأوضاع في سوريا يجب أن يظل هذا الاعتبار حاضراً في ذهن صانع القرار المصري. لا أناقش تصريحات الدكتور مرسي الأخيرة حول سوريا، وإنما أناقش توقيتها لتبيان تهافتها ونفعيتها. لماذا خرج الدكتور مرسي على العالم ليعلن ما أعلن الآن؟ إذا كان السبب غيرته على الدم السوري المسفوك على يد نظامه، فقد كانت هناك فرصة كافية ليفعل ذلك منذ توليه السلطة العام الماضي، والدم السوري يسفك منذ قيام الحراك قبل سنتين. ناورت إدارة الدكتور محمد مرسي، فأطلقت «المبادرة الرباعية» التي تضم مصر والسعودية وتركيا وإيران لحـل الأزمة. وظلت متمسكة بالمبادرة مع تفاقم الأزمة، من دون أن تفكر في سحبها. وتحت غطاء هذه المبادرة حاولت إدارة الدكتور محمد مرسي التقرب من إيران، ليس اقتناعاً منها بأهمية إيران الإقليمية، وإنما لابــتزاز دول خليجية مثل السعودية والإمارات بهذه العلاقات. وطيلة هذه المناورات والابتزازات كان الدم السوري يسفك. يعرف العالم أن سبب التوقيت هو تغيير الإدارة الأميركية موقفها من الأزمة السورية لجهة تسليح فصائل سورية معارضة بعينها، وليس لأن الدم السوري المسفوك استفز مشاعر الدكتور محمد مرسي.
ابتدأ الحراك في سوريا سلمياً لشهور، وكان على كل صاحب ضمير أن يتضامن مع شعب أعزل يقمعه ويقتله نظامه، بغض النظر عن هوية ذلك النظام الطائفية. ولكن محمد مرسي ـ وحليفه أردوغان ـ لم يقطعا العلاقات مع النظام السوري وقتها. ولكن عندما تمّ اختطاف الحراك السلمي السوري من قوى إقليمية بعينها عبر تحويله إلى حراك مسلح وصراع إقليمي بالوكالة، فقد تغير موقف تركيا من النظام تقديراً منها أن النظام سيسقط هناك.
استفاد الدكتور مرسي من خطأ التقدير التركي، فاحتفظ بشعرة معاوية مع النظام السوري وحليفته إيران بغرض ابتزاز أطراف أخرى. قطع الدكتور مرسي هذه الشعرة أول من أمس، عندما أعلن عن قطع العلاقات مع سوريا على خلفية التحول الأميركي في المواقف، وعلى أساس استغلال المأساة السورية لأغراض فئوية تخص جماعته (تشتيت الانتباه عن تظاهرات 30 حزيران). لم ينضم الدكتور مرسي إلى مصالح الشعب السوري بكل مكوناته وطوائفه ولا إلى حقه المشروع في الحرية، وإنما انضم إلى تحالف طائفي في مواجهة تحالف طائفي آخر، ما قد يعمل على تقسيم سوريا بينهما.
لا تفقه إدارة الدكتور مرسي أن دور مصر التاريخي ينهض عندما تكون مرجعية العرب على اختلاف أديانهم وطوائفهم، وإذ تكون منارة التقدم والحرية لشعوب المنطقة، وليس عندما تصطف في تحالف إقليمي على قاعدة مذهبية، حتى ولو كانت سنية. لا يناسب أسلوب التحالفات المذهبية المصالح الوطنية المصرية، وإنما يناسب قوى أخرى ـ لاعتبارات خاصة بهذه القوى ـ تقف للمفارقة على مواقع متقابلة في الصراع السوري. لمصلحة مَن الانخراط في ساحة صراعية ليست ساحة مصر ولا تناسبها ولا تلبي مصالحها؟

مصالح مصر الوطنية في مياه النيل

من الثوابت الكيانية والمصيرية المصرية، أنه لا يمكن التنازل عن حقوق مــصر التاريخيــة في مــياه النــيل، وهي حقيقة ممتدة عبر التاريخ. مصر بدون النيل صحراء جرداء، لا زرع فيــها ولا مــاء. وبفضل النيل قامت الحضارة المصرية القديمة، وبسببه استمرت مصر قوة إقليمية على مدار التاريخ، ففقر مصر في الموارد المعدنية والطبيعية، يعوّضه نهر النيل أساس الحياة المصرية. وعى كل حكام مصر على اختلاف مسمياتهم وتوجهاتهم هذه الحقـيقة، فاستماتوا دفاعاً عنها. وحتى المخلوع مبارك لم تتــجرأ أثيوبيا على فعل ما فعلت أثناء وجوده في السلطة، فمن يغتصب مياه النيل يحكم على مصر والمصريين بالموت عطشاً. وعندما تبني أثيوبيا سداً لتوليد الطاقة يحجز مليارات الأمتار المكعبة من المياه، من دون اتفاق مع مصر على ضمان حصتها التاريخية الثابتة وغير القابلة للتصرف فيها، إنما تعلن عن رغبتها في قتل مصر عطشاً. وبالتالي يتطلب مواجهة هذا التهديد الوجودي لمصر مواجهة تجمع الصلابة والانتباه والفطنة، وحشد كل الطاقات والعلاقات الدولية للدفاع عن هذا الحق.
ماذا كان رد فعل إدارة محمد مرسي؟ التهوين من شأن التهديد الوجودي، ودعوة شخصيات سياسية من تيارات متباينة ترضى بحكم «الإخوان» لتنظيم حلقة نقاشية منحدرة المستوى، أذيعت على الهواء مباشرة تحت اسم «الحوار الوطني». في هذه الحفلة من التهريج والجهل السياسي خرجت تصريحات من الحاضرين غير المؤهلين للحديث في الموضوع أصلاً، تضرّ بحقوق مصر التاريخية وتستفز الجانب الأثيوبي من دون قدرة على الفعل. وظهر الدكتور مرسي على الشاشات ليقول إن حجم الخسائر المائية لا تتعدى 1,2 مليار متر مكعب من المياه من أصل 55 ملياراً، هي حق مصر التاريخي والقانوني في هذه المياه، وهو تقدير غير صحيح، وفنده الخبراء المصريون المعنيون بالملف. أظهرت الحلقة النقاشية للعالم حــالة الإفــلاس والتخبط التي يعيشها حكام مصــر الحاليــون، وكأن من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً، فكانت أكبر خدمة تسديها إدارة الدكتور مرسي للحكومة الأثيوبية.
أطمأنت حكومة أديس أبابا، بعد إذاعة الحوار الفاقد المستوى للنخبة المصرية الحاكمة، فأعلن البرلمان الأثيوبي بعدها تقنين الحرمان المصري من مياه النيل. في هذه الظروف يخرج علينا الدكتور محمد مرسي وكأنه لا يبصر ليصرح قائلاً: «دماؤنا عوضاً عن مياهنا».
السلطة التي لا تنحاز لشعبها وحقه في الحرية والعدالة الاجتماعية، لا تقاتل دفاعاً عن حقوقه التاريخية في مياهه التي هي أساس وجوده، والمجتمع المنقسم داخلياً بفعل الاستئثار والغلبة يسهل استهدافه من الخارج، والجماعة العابرة للأوطان لا تعنيها ـ على الأرجح ـ المصالح الوطنية.
حلم المصريون بعد سقوط مبارك بحكم جديد، يضمن مصالح بلادهم الوطنية وحقهم في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، فاستيقظوا من الحلم على إدارة تصادر حرياتهم ولا تأبه لكرامتهم، ولا تحفظ مصالح وطنهم العليا.
خلاف المصريين مع الجماعة ليس خلافاً سياسياً يتعلق بإدارة الشأن العام، وإنما خلاف يتعلق بالوجود الفيزيقي المجرد للدولة المصرية وحقوقها التاريخية غير القابلة للتفريط. وخلاف المصريين مع إدارة الدكتور مرسي يتعلق برؤيته التي تقزم مصر ودورها ولا تستوعب شرائطه ولا تعمل على إمكانات تحققه. خلاف المصريين مع جماعة «الإخوان المسلمين» لا يتعلق بخلاف فكري، وإنما بمصالح مصر الوطنية التي تسمو على مصالح أي جماعة أو تيار. موعدنا الأحد 30 حزيران!

صحيفة السفير اللبنانية

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى