مصر: الانتفاخة الشبابية تزداد تضخماً وحلم الهجرة يتقلص

بدلاً من أن تشير الأبحاث إلى أن الشباب يحلمون بالهجرة، ويخططون للهروب، و»يتكتكون» للخلاص من البلاد والانعزال عن العباد، تشير دراسة حديثة إلى إنهم ربما يقفون على جانب أقل سواداً وربما يتجهون إلى تناول أكثر إيجابية. وعلى رغم أن نتائج المسح الذي أجراه «مجلس السكان» عن الشباب في مصر لا تعني أنهم يعيشون أزهى عصورهم أو يخوضون أجمل خبراتهم، إلا أن رؤى بعضهم عن أنفسهم ومشكلاتهم باتت أكثر وضوحاً واعتراف بعضهم بطبيعة المشكلات وحجم الصعوبات أصبح أكثر واقعية، واتجاه قطاع منهم إلى مشاركة أكثر إيجابية منعكس في الأرقام والإحصاءات.

الأرقام والإحصاءات تشير إلى أن «الانتفاخة الشبابية» التي طالما تطرقت إليها الأبحاث والدراسات منذ ما يزيد على عقد تزيد انتفاخاً. فنسبة السكان في مصر الذين تبلغ أعمارهم 29 سنة وأقل تبلغ 62 في المئة. فالشباب والأطفال من سن عشرة إلى 29 سنة يشكلون 40 في المئة من التعداد، والمتراوحة أعمارهم بين عشرة و17 سنة تبلغ نسبتهم المئوية نحو 45 في المئة، وهو ما يعني أن الانتفاخة تتجه نحو صغر السن.

هذه الانتفاخة أو الكتلة الشبابية أصبحت أكثر قدرة على تحديد مشكلاتها وشرح مخاوفها وسرد أحلامها بشكل أكثر واقعية. كريم (15 سنة) يقول إنه يعرف أن المدرسة «شر لا بد منه» وأن فرص العمل «تكاد تكون معدومة» لكنه سيكمل تعليمه «ليحصل على الشهادة» و»سيفكر في عمل حر لأن الحكومة مقفلة تماماً». وسارة (18 سنة) تقول إنها كانت تشعر بخجل شديد من مواجهة المتحرشين ورفض ما تتعرض له في الشارع، لكن تواجدها على «فايسبوك» و»تويتر» مكنها من متابعة حملات تشجع الفتيات على رفض ما يتعرضن له، بل وتصوير المتحرش وتحميل صوره على الإنترنت.

عشرات الأسئلة والقضايا تضمنتها نتائج المسح الشبابي الذي أعاد «مجلس السكان» إجراءه على الشباب في مصر بعد مرور خمسة أعوام على المسح الوطني الأول لتخرج النتائج غير متوقعة. المجلس الذي أجرى «مسح النشء والشباب في مصر» في عام 2009 أعاد إجراءه بعد سنوات لتقصي ما جرى من تغيرات في الاتجاهات بعد ثورتين ومراحل انتقالية والعديد من التغيرات الكبرى التي طرأت على شباب مصر. نسبة كبيرة ممن خضعوا لمسح 2009 أعيد إخضاعهم للمسح الجديد الذي أعلنت نتائجه أخيراً لتأتي نتائج عدة عكس المتوقع.

الغالبية قالت إنها باتت تشارك وستشارك في أي انتخابات مقبلة، وإنها ستتجه بعيداً عن كل من العمل الحكومي والقطاع الخاص، وإنها لم تعد تحلم بالهجرة، وإنها أكثر ميلاً لتأسيس أسرة كبيرة العدد.

النتائج غير المتوقعة تشير إلى أن توجهات الكتلة الشبابية لا يمكن استنباطها بناء على ما ينبغي أن يكون، بل يحب قياسها بناء على ما هو موجود. وإذا كانت أخبار وتوجهات الشباب المقيمين في المدن الكبرى هي الأكثر ظهوراً وسيطرة على وسائل الإعلام، فإن هذا لا يعني إنها السائدة فعلياً. فشباب مصر المقيمون في القرى هم الأكثر عدداً، وإن لم يكونوا الأعلى صوتاً أو الأكثر ظهوراً. فما يزيد على 60 في المئة من شباب مصر هم من سكان القرى وهي النسبة نفسها التي خرج بها مسح عام 2009. لكن سكان العشوائيات من الشباب زادوا من 5،6 في مسح عام 2009 إلى 9،8 في مسح عام 2014.

وعلى رغم إن نسبة الشباب الذين يلتحقون بالتعليم تبلغ 95 في المئة، إلا أن هناك قطاعاً منهم لا يتمكن من إكمال تعليمه المدرسي، لا سيما أولئك المقيمين في محافظات الحدود. وكلما زادت نسبة تعليم الأمهات زادت نسبة التحاق الأبناء بالتعليم الجامعي. وقد أيقن الشباب عدم وجود علاقة أوتوماتيكية بين الحصول على الشهادة الدراسية وفرص العمل، بل اتضح تماماً إنهم مدركون لتقلص منظومة العمل «الميري» حيث الأمان الوظيفي والاستقرار الاقتصادي. أيقنت الغالبية أن «تراب الميري» سمة الأمس أصبح تراباً فقط بمقاييس اليوم. فلا فرص التوظيف الحكومي باتت متوافرة، ولا الوظيفة الميري أصبحت حلماً. وأظهر المسح أن الفترات الانتقالية التي شهدتها مصر أدت إلى تدهور ظروف عمل الشباب. وعلى رغم تراجع معدلات البطالة من 15،8 في المئة في عام 2009 إلى 13،6 في المئة عام 2014، إلا أن ذلك لم يأت مصحوباً بزيادة معدلات تشغيل الشباب. ويعلل ذلك بأن نسبة غير قليلة من الشباب قرروا البقاء خارج قوة العمل ليأسهم من العثور على فرصة عمل أو لانخراطهم في مجال الأعمال الحرة سواء كانت «فرشة» بائع جائل على الرصيف أم مشروع خريج جامعي على شبكة الإنترنت.

شبكة الإنترنت نجحت في تحقيق قدر أكبر من التغلغل في حياة انتقاخة مصر الشبابية. فأعداد متزايدة منهم أصبحت متصلة بشبكة الإنترنت، كما زادت نسب الاتصال العنكبوتي حيث أعداد أكبر باتت من أصحاب الحسابات والصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي. هذا التواجد الكثيف غير كثيراً من مستويات الوعي، ليس فقط على المستوى السياسي، ولكن على مستويات اجتماعية حيث اكتساب المعرفة المعضدة للتجارب الشخصية واقتصادية عدة وأبرزها سبل إقامة مشروع صغير أو متناهي الصغر بعيداً عن الميري وترابه.

حلم الهجرة هو الآخر لحقته أتربة شبابية، فعلى رغم فترات عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي المتلاحقة على مدى السنوات الماضية، إلا أن معدلات الرغبة في الهجرة شهدت انخفاضاً طفيفاً في الفئة العمرية من الشباب بين 15 و29 سنة من 17،2 في المئة عام 2009 إلى 18،3 في المئة في عام 2014. وبالطبع لعب الاقتصاد دور البطولة في التفكير في الهجرة. أكثر من ثلثي الشباب الذين تراودهم الرغبة في الهجرة قالوا إن عدم وجود فرصة عمل هو السبب. نصف الشباب حددوا الظروف المعيشية الصعبة وانخفاض الدخل ضمن عوامل تأجيج الحلم. وعشرة في المئة فقط قالوا أن الأسباب الأمنية والسياسية هي الدافع.

دوافع عدة تجعل من الضغط على متخذي القرار وصانعي السياسات أمراً بالغ الأهمية في ضوء نتائج المسح. فمعرفة طبيعة تكوين كتلة مصر الشبابية التي تختلف تماماً عن تلك السائدة وصاحبة الصوت العالي في الإعلام تؤهلهم ليكونوا في بؤرة الاهتمام السياسي والاجتماعي والاقتصادي. فهم أكثر وعياً، وأعمق معرفة، وأكثر قدرة على تعليم أنفسهم وتثقيفها، والأوقع حين يتعلق الأمر بالحلم. وليس أدل على ذلك من تحويل دفة الحلم من الهجرة إلى العمل الحر بعيداً عن الميري وترابه على سبيل المثال لا الحصر.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى