مصر بين خطوط الحرب والإقصاء والحرية (علي الرجّال)
علي الرجّال*
الحرب هي الوصف الأدق لما يحدث الآن في مصر، ولكنها ليست حربا أهلية بالمعنى الدقيق. وجاءت نتائجها صريحة لتعلن هزيمة التيار الإسلامي، وكانت اللحظة الحقيقية لميلاد ذلك الحدث ليس تحرك الجيش المصري بل الشعب المصري. فهزيمة ذلك التيار تكمن في الإزاحة الشعبية لا في الإطاحة السلطوية. 30 يونيو كان إعلانا عن موت الخطاب الإسلامي الذي هيمن طويلاً على المجتمع. إلا أن الحرب لم تعد المعضلة الرئيسية أمام الثورة المصرية الآن، لأنها انتهت، بل أصبح النصر هو المشكلة. ماذا نفعل بهذا التيار الكبير المهزوم؟
لعل الحرب كانت ضرورية لدحر النزعة الفاشية التي مارسها ذلك التيار. ويلوح في الأفق الآن طريقتان للتعامل معه. الأولى ترى ضرورة إقصائه من كل المجال السياسي والعام، وفقاً لإجراءات قانونية مشددة. والثانية ترى الحرية أفضل لعموم حركة الثورة المصرية. الأولى ترى في عدم إقصاء التيار الإسلامي بالكلية فتحاً لباب عودته من جديد، وأن علينا تفهم ألم المجتمع من ذلك التيار وإحساسه بخيانته له. وبالفعل، فعلى المستوى الشعبي، هناك غصة في الحلق، ومرارة ولدت على امتداد السنة الماضية، بسبب صلف وتكبر الممارسات الاخوانية، وانحطاط الخطاب، وخسة الفعل وتكدير كل فرحة كان يمكن أن تنمو وتنعش المجتمع. وهناك دم أريق من أجل شهوة الحكم على يد جماعات مسلحة لم تتورع عن التلويح بالحرب الأهلية والتهديد بسيناريوهات الجزائر والصومال وسوريا. وتجب التفرقة بين عمليات الإقصاء وبين ضرورة محاسبة قيادات هذا التيار وكل من اشترك في عمليات القتل والترويع والتحريض، بمن فيهم شبابه وأتباعه، وهو أمر ضروري لا تستقيم الأمور من دونه، حتى نؤسس لأفق آخر يكون فيه القتل مستفظعا والترويع محرماً… وهذا من أهم أهداف الثورة ومن معايير نجاحها.
الحرية أفضل السبل
ولكن ثمة حقائق أخرى تشير إلى أنه، إذا أرادت الثورة أن تجهز على هذا التيار، فيبدو أنه من الأنجع أن تنتهج الحرية لا القمع، وفتح المساحات لا غلقها، والتحرر لا القهر، وبواسطة المجتمع لا بالدولة. وهذا لسببين رئيسين: الحرية تغلق الباب على أي فرصة للهروب من تحمل المسؤولية وأعبائها. وبالتالي لا يمكن لخطاب المظلومية أن يتمفصل داخل التنظيم ولا في المجتمع، ببساطة لأنك حر وطليق، وبالتالي فلا مجال للمأساة أو القهر. الحرية والمجال العام المفتوح يفككان التنظيمات الهرمية، لأنه لا يوجد المبرر الذاتي ولا الموضوعي للاستمرار في تلك التراتبية القائمة على الانغلاق والسرية. ثم إن الحرية تسمح للفرد أن يدخل محيطات مختلفة عن حيزه الاجتماعي او التنظيمي الضيق، وبالتالي لا يعود يُنتَج من خلال تنظيمه فقط، وفي حيزه الاجتماعي، ولكنه يصبح نتاجا لأكثر من مؤسسة ومساحة. وهو ما يكسر بالتالي عمليات التنميط السائدة في تلك التنظيمات. فأهم ما يسمح لها بالتماسك والوحدة العضوية هو تدوير الفزع من الخارج إلى الداخل، وإعادة إنتاجه بما يؤكد أهمية الاصطفاف أو الفناء.
تسييل الفكرة: التنظيمات الاسلامية "الجهادية"
أما بالنسبة لتنظيمات الإسلاميين الشبكية، فالحرية أيضاً كفيلة بتفكيكها. فتلك التنظيمات تقوم، أولا، على اساس بسيط هو حلول الفكرة والقيمة في الأنسجة المجتمعية من خلال خلايا رخوة. وهي بذلك تستبدل التنظيم بالقيمة، وتُحدث عملية تسييل لها بحيث يكون انتقالها أسهل، ويكون الانتساب للفكرة من خلال إعلان الولاء لها ومن خلال اعتماد التنسيق. وعوضاً عن البنية الثقيلة، والتنظيم، وتحديد أدوار وتكليفات بشكل هرمي أو "شجري"، يكون التكليف هنا بشكل تنسيقي وتشاركي. وهذه النوعية من التنظيمات الإسلامية هى الأخطر، وهي كثيرة ومتعددة. فداخل الطيف الواسع لتيار السلفية الجهادية حركات تولد وتموت، مثل "حركة حازمون" و"الجبهة السلفية"… الخ. أما خارج مصر، فكل تنويعات تنظيم القاعدة ليست خاضعة بالضرورة للتنظيم الرئيسي في أفغانستان، بل ربما لا تكون لها أي علاقة تنظيمية به غير الانتماء لمنظومة القيم نفسها، والنهج التنفيذي، والتعضيد المتبادل للتحركات المشتركة. وتلك الحركات في مصر هي الأقرب لطبيعة الثورة المصرية، وقمعها أو محاولة قمعها يؤدي إلى انفجارات وإعادة تشكل لخلاياها بشكل متواصل. ولا يوجد ما هو أفضل من الحرية للتعامل الإستراتيجي مع تلك التنظيمات، خاصة انها تشكيلات ذات طبيعة ثورية وراديكالية. فقيمها دوماً مستمدة من وضع فيه قهر خارجي، تحاربه وتستبسل في مقاومته. ووعد هذا الخطاب يتمحور دائماً وأبداً حول الكرامة والعزة، وهي أمور إيجابية. واحترام هذه القيم وتوفيرها لهم ينزع من ايديهم فرص تمدد التطرف وتوسع تلك التنظيمات التي سرعان ما تتشنج وتجنح لاستخدام عنف واسع حينما تُهدَّد أو تستشعر بأنه وقت الجهاد… ويعمل خطاب هذه الخلايا والتشكيلات بطريقة عكسية لمظلومية التنظيمات الكبرى مثل الإخوان. وهي تستدعي لحظة تاريخية تحقق من خلالها إنتاج العزة في نفوس أتباعها أو من تحاول استقطابهم، وبالتالي فهى تنطلق من المجد لا من الظلم. وتنتج خطابا للمظلومية ولكن في حيز آخر وهو الحيز العالمي، مبرزة أن هناك اضطهادا للفكرة والقيمة الإسلامية على مستوى عالمي لا داخلي ولا محلي فقط. وبذلك فهي تعطي بعدا أكبر وأعظم لقضيتها. ورأس مالها الرمزي قائم على استدعاء صور أشخاص قاموا بالفعل بإرباك المنظومة العالمية، وبعضهم كانوا مقاتلين أشاوس مثل "خطّاب" (سامر بن صالح بن عبد الله السويلم) في الشيشان. وقد بدأ ينمو اتجاه واضح في مصر يتباهى بصور الزرقاوي وأسامة بن لادن، سواء على صحفهم الخاصة في الفيسبوك أو حتى بشكل ميداني في التظاهرات التي يحشد لها هذا التيار. وتثير هذه التشكيلات في النفس أمرا غاية في الخطورة، وهو إمكانية التحرر والانعتاق. ولقد عبر عن هذا التجريد والقيمة العامة حملة "لازم حازم" التي كانت تدعم المرشح السابق حازم صلاح أبو إسماعيل في سباق الرئاسة. فشعار الحملة "سنحيا كِراماً"، كان الأكثر اتساقا مع مبادئ وشعارات الثورة، وحاكى وداعب حلما شعبيا تم دفنه لعقود طويلة وجاءت الثورة لتعبر عنه.
استراتيجية الحرية: ثلاث محاجات
إستراتيجية الحرية مهمة بشكل عام، وتتلخص في محور أول بأن سنة واحدة من الحرية قد أسقطت تنظيما نجح في البقاء والتوغل على مدار 80 عاماً في سياق من القهر والظلم كما يقول الكثيرون. ويقال أيضاً: إن أصلحوا وقدموا شيئاً مفيداً فستكون إضافة عامة، وإن لم يضيفوا فلن تستطيع جهة منهم التعلل بأن لديهم ما يقدمونه ولكنهم ممنوعون.
المحور الثاني وهو الأهم في تبني نهج الحرية، هو عدم إعطاء الدولة القدرة على البطش الدائم. لا يمانع عاقل في تصدي الجيش والداخلية لتلك الجماعات بالعنف في حالتي الترويع أو الحرب. ولكن ثمة أمرا خطيرا في استدامة حالة الحرب، وهو التأسيس لحالة الاستثناء. وهو ببساطة يعني رفع القانون او "تحويل رفع القانون إلى قانون". وبالتالي، فالبنية القانونية ستكون بنية قمعية لأقصى درجة، وتؤسس لاستمرار حالة الفزع في المجتمع، أي ما أعطى الخطاب الأمني المساحة للتمفصل مع المجتمع والدولة، والاستمرار في العنف والقهر وشرعنته مجتمعياً وسياسياً وقانونياً… والحقيقة أن الثورة قامت ضد هذا النمط تحديداً من علاقات السلطة. وبالتالي فليس من المعقول أن تتم التضحية بالحرية وأهداف الثورة من أجل نزعات انتقامية من فصيل قامت الثورة بهزيمته.
وفي محور ثالث أخيراً، فالجموع هي من قامت بهزيمة الإسلام السياسي، وليس الجيش ولا الداخلية ولا كل الدولة العميقة مجتمعة. ولذلك، فإن كراهية التيار الإسلامي الآن ليست موجهة للجيش بقدر ما هى مصوبة نحو الشعب، كما تعبر تصريحات الكثير من الإسلاميين الذين لم يتورعوا عن تصنيف هذه المجموعة التي ثارت بانها إما فلول وإما بلطجية مأجورة، وإما مغرر بها وإما أنهم عبّاد "بيادة" (أقدام) العسكر. بل ينتشر على صفحات الإنترنت وفي تصريحات عامة لهم ما هو أبعد من ذلك، حيث يتم نعت الشعب بـ"الديوث" و"المنافق". ويبدو أن حربا من التكفير والتكفير المضاد تأخذ مكانها بين قطاعات من الجماهير والتيار الإسلامي المناصر لمرسي. وتزايد بعضُ الجموع على إسلامية الإسلاميين وتتهمهم بالكفر وبانهم حادوا عن طريق الإسلام، إذ يقتلون الناس من أجل الحكم لا من أجل الشريعة.
مؤامرة، كونية لو أمكن
ولكن لماذا الإصرار على خطاب المؤامرة والانقلاب العسكري؟ حينما هزمت الجموع وزارة الداخلية في 28 يناير، بادرت الدولة سريعاً بخطاب المؤامرة وإنكار الهزيمة ولصق الفعل بعناصر خارجية قوية ومؤامرة دولية أعظم وأكبر من إمكانيات الدولة المصرية وعلى رأسها الداخلية… لماذا فعلوا هذا؟ ببساطة لأنهم لا يريدون الاعتراف بالهزيمة على يد مجموعة من الشباب والأهالي! الدولة كيان ضخم وأسطوري وحينما يهزم فيجب أن يهزم بشيء مثله، أو بمؤامرة كونية من خارج الأرض إن أمكن. لا يمكن قبول الحقيقة المرّة القائلة بأن الجماهير هي من أجهزت على الدولة بكل جبروتها. فلنتخيل كيف يمكن لضابط شرطة أن ينظر في عين المواطن وهو يعرف ويعترف بإنه من سحقه من قبل. وهذه حالة معروفة بالإنكار.
والحال نفسه يتكرر مع تيار الإسلام السياسي. الإخوان المسلمون الذين حيروا كل أنظمة الحكم في مصر، جاءت ببساطة جموعُ الشباب الثوري مع أهالي المناطق المختلفة، وقطاعات من فلول النظام السابق، ونزلت إلى الشارع في معركة مفتوحة، وهزمت هذا التنظيم وشبكاته بل وعلاقاته الدولية… حتى صار يضرب المثل بأن شباب بولاق أبو العلا أفشلوا المشروع الأميركي في المنطقة، عندما دحروا محاولتَي الإسلاميين في اقتحام التحرير ومحاصرة ماسبيرو. وكان على هذا التيار أن يحيل هزيمته إلى كائن أو مؤسسة أكبر منه، مثل الجيش، أو مؤامرة دولية وإقليمية، وعليه أن يضيف بعدا عقائديا للمسألة، فالمؤامرة ليست فقط على الإخوان بل على الإسلام.
اليد العليا للجموع
إلا أن استمرار الحرب لأمد بعيد سيفضي على الأغلب إلى هزيمة الإسلاميين، ولكن هذه المرة على يد الجيش والداخلية. وعندها سيذهب المجد والانتصار من الجموع إلى الدولة، وهذا ما لا تريده أي ثورة شعبية. فلاستكمال الشرعية الثورية، ينبغي للنصر أن يظل في أيدي الجموع، وأن تكون يدها هي العليا في هذه المعركة، وآثارها هي ما يبقى في المجال العام والذاكرة الشعبية لا بيادات العسكر… "فمجد كهذا المتوج بالأزرق صعب الزيارة" على حد قول الكبير محمود درويش.