مصر: ديكتاتورية الغالبية… سعياً الى صياغة ما هو آت (سامر القرنشاوي)

 

سامر القرنشاوي

باسم الديموقراطية، يدين كثيرون ما شهدته مصر من عزلٍ لرئيسٍ منتخب. لكن أليست الدعوة الى انتخاباتٍ مبكرة التي تحركت على أساسها حركة تمرد مطلباً ديموقراطياً صرفاً؟ أليست محاسبة الرؤساء أو حتى عزلهم أموراً مباحة في الديموقراطيات الراسخة؟ صحيح، وعلى رغم الانتفاضة الشعبية العارمة، محورية الدور العسكري في الإطاحة بمرسي تخيف في بلد حكمه عسكريون لعقود، وهناك بالفعل إشارات مقلقة لممارسات قمعية. لكن لو كان ما جرى انقلاباً، فإن «الإخوان» أجبروا الكثير منا على تأييده. الافتراض الضمني لمن يدين عزل مرسي ان أعضاء جماعة «الإخوان المسلمين» ديموقراطيون توجهاً وثقافةً. فلنستمع أولاً إلى من عُزلوا وبكلامهم هم وحلفائهم نحلل المشهد.
في منتصف حزيران (يونيو) الماضي عقد الرئيس المعزول مؤتمراً حاشداً في استاد القاهرة «لنصرة سورية». التجمع، كما جرت عادة الرجل في رئاسته، كان حشداً للأنصار. المخيف كان حديث حلفاء أتباع حسن البنا (مؤسس جماعة الإخوان) من المنتسبين الى تيارات تحسب على السلفية، أول هؤلاء كان «شيخاً» (تخصصه الأكاديمي الأول كان الإعلام) خاطب، بعد أن دعا الى «الجهاد» بالنفس والمال والسلاح في سورية، الرئيس الجالس: «أناشدكم ألا تفتحوا أبواب مصر الطاهرة للرافضة»، وعند لفظة «الرافضة» (إشارة الى الشيعة)، قاطعه عشرات الألوف من الحضور بالتصفيق والتهليل قبل أن يستطرد بوصلةٍ من السُباب للشيعة في وجود رئيس الدولة قبل ان يأتي «شيخٌ» آخر (هذا درس الزراعة قبل «الاستشياخ») بدأ باستئناف سُباب الشيعة أمام صمتٍ كامل من الرئيس الجالس ثم واصل بلغةٍ مشابهة، لا عن «الرافضة» (الذين قتل أربعة مواطنين مصريين منهم بأبشع الطرق بعد هذه الخطبة ببضعةِ أيام في الجيزة) لكن عن عموم المصريين الذين يحكمهم الرئيس الجالس وتحديداً عمن خطط للتظاهر يوم 30 حزيران الماضي، دعا «الشيخ»: «وأسأل الله عز وجل أن يجعل يوم الثلاثين من يونيو يوم عزٍ للإسلام والمسلمين وكسرٍ لشوكةٍ الكافرين والمنافقين… (هنا استوقف «الشيخ» تهليل حاد من الحضور) اللهم رد كيدهم في نحورهم واجعل تدميرهم في تدبيرهم… اللهم أخزهم وانصرنا عليهم». لم يقاطع «الشيخ» الرئيس الجالس الذي من الواضح أنه لم يعِ يوماً انه رئيسٌ لكل المصريين بمن في ذلك معارضوه من مسلمين (حكم عليهم بالكفر) وغير مسلمين (لا مكان لهم في هذه اللغة أصلاً). صمت الرئيس المعزول لم يخفف منه تعليقٌ باهت صدر من الرئاسة تنصل من هذه العبارات من دون إدانتها.
دفاعاً عن حكم مرسي، عقد الإسلاميون تظاهرةً حاشدة يوم الثامن والعشرين من حزيران تحت عنوان «نبذ العنف»، وتحت عنوان «نبذ العنف» قال أحد أشهر الوجوه الإخوانية من على المنصة، وشعار جماعة الإخوان بسيفيه الشهيرين وراءه: ان من يقذف الرئيس مرسي بالماء «سنقذفه بالدم» ثم تبعه عددٌ ممن ادعوا سابقاً التخلي عن خط السلفية-الجهادية متحدثين عن متظاهري الثلاثين من حزيران: «نحن نعدهم بأنهم سيسحقون» و «اليوم نغزوهم ولا يغزوننا». وكأنما لغة الحرب هذه، التي لم نقدم منها إلا امثلة، لا تكفي، صعدت إلى منصة «نبذ العنف» سيدةٌ مسنّة مقعدة قدمها أحد الوقوف على أنها «أم المجاهدين والشهداء أم خالد الإسلامبولي… البطل المغوار»، وقابل جملته هذه تكبير وتهليل من الحضور. لمن لا يعرف، خالد الإسلامبولي هو من قتل أنور السادات.
هل من هذا فكره ولغته، نطقاً أو قبولاً، يؤمن بالديموقراطية؟ أضف إلى ذلك أن دستور 2012 الذي فرضته الجماعة التي تنافح اليوم باسم الشرعية، مُرر من دون مشاركة قوىٍ سياسية واجتماعية أساسية في المراحل الأخيرة من صياغته (والتي تمت على عجالة لإنقاذ الرئاسة من إعلان دستوري سبب عاصفةً سياسية)، ولم يصوت عليه إلا حوالى أربعين في المئة من الكتلة التصويتية ولم يوافق عليه من هؤلاء إلا أقل بقليل من الثلثين (أي أكثر بقليل من ربع إجمالي القوة التصويتية). يعرف الجميع ان الدساتير الديموقراطية تكتب بالتوافق، لكن هنا تحديداً نرى كيف يفهم أتباع الإسلام السياسي في مصر الديموقراطية: ديكتاتورية الغالبية، بما في ذلك الانفراد بكتابة قواعد اللعبة السياسية (الدستور) نفسها بما يهدد عملية تداول السلطة عاجلاً أو آجلاً إن لم يلغها كليةً.
لكن خطر حكم الإخوان ذهب أبعد من تهديد الديموقراطية. من بين العلامات الكثيرة على لا شرعية الدستور الذي مرره الإخوان في 2012 غياب ممثلي الكنائس المصرية عن النقاشات النهائية للتصويت على الدستور، لكن أينتظر ممن يسكت عن تكفير معارضيه المسلمين ان يؤمن بمواطنة غير المسلم؟ لغة الجماعة وحلفائها، بخاصة في الأسابيع الأخيرة قبيل عزل مرسي وبعده تؤشر لاعتقاد بشرعية إسلامية لا شرعية وطنيةٍ جامعة. المشروع القومي المؤسس للدولة المصرية لا مكان له هنا. حديث الجماعة يخاطب المسلم الموالي في المقام الأول. ولأن الإسلام السياسي عموماً وأتباع حسن البنا خصوصاً يرون أنفسهم مرادفاً للإسلام، فإن الميل السائد هو تكفير المعارض او الحديث المتكرر عن مؤامرات «النصارى» وراء الثلاثين من حزيران، طبعاً لا مكان هنا لحق المسيحي في أن يكون مواطناً له ما للمسلم وعليه ما على المسلم. السؤال الذي يتوجب علينا إذاً طرحه اليوم هو قابلية مشروع سياسي أممي كالإسلام السياسي للتوافق مع واقع الدولة الوطنية. الإجابة على أساس ما رأيناه العام الماضي هي بالنفي.
«الشريعة» مثلت أساساً لدعاية جماعة الإخوان وحلفائها، لكن لم يخبرنا أحد ما المقصود بـ «الشريعة». هل يعنون العودة الى النظام السابق على حكم محمد علي من أربعة قضاة للمذاهب الأربعة؟ كيف ستقنن الأوضاع القانونية القائمة للتوافق مع ما هو آت؟ ومع غياب هذه الأسئلة البديهية حوار الشارع السائد (بين مؤيدي ومعارضي تطبيق الشريعة على حدٍ سواء) لا يبدو فقط جاهلاً بتعدد مدارس الفقه الإسلامي ومن ثم ديناميكيته، بل يكاد يقصر الشريعة على الحدود التي تشغل حيزاً أصغر بكثير من المعاملات في الفقه الإسلامي على ما نعرف، ناهيك عن القيود المفروضة على تطبيق الحدود، لكن المهم هنا لم يكن أبداً التفاصيل. ومع «شعار» الشريعة، لا غناها ولا تعقيدات تطبيقها، تأتي أوهام تاريخية جذرية. المعروف ان إلغاء اتاتورك للخلافة العثمانية كان سبباً دافعاً لنشاط حسن البنا الدعوي ثم السياسي. لم يغب ذلك ابداً، رأينا شباب الإخوان يستقبلون رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان عند زيارته مصر بعد ثورة يناير بلافتات تطالبه بإعادة دولة الخلافة. لندع جانباً ان ذلك مؤشر آخر للتناقض بين واقع الدولة الوطنية والمواطنة والإسلام السياسي، تؤشر الواقعة إلى قراءةٍ قاصرة للتاريخ تفضي بالضرورة إلى فهمٍ ساذج للواقع. لنقر أولاً ان السعي الى الوحدة لا غبار عليه، لكن شريطة الانطلاق من الحقائق. اوروبا اليوم تكافح في هذا الاتجاه، لكن كل اوروبي يعرف أنه منذ أقل من سبعين عاماً كانت شعوب القارة تطحن بعضها بعضاً في حرب ضروس. أين الإسلام السياسي من هذه الواقعية؟
اعتبار الإطاحة بحكم أتباع حسن البنا ضربة للديموقراطية يساوي في منطقيته اعتبار النازيين قوة ديموقراطية. لكن من ناحية أخرى، افتراض أن القمع هو السبيل الأمثل للتعامل مع الإسلام السياسي إفراط في اللامنطقية. لم يخسر الإسلام السياسي في ثمانين عاماً قضى معظمها تحت الأرض وفي السجون مثلما خسر في عامين ونصف العام من الحرية منها عام في السلطة. الحرية إما ستقضي على الإسلام السياسي أو ستجبر أتباعه على ما عجزوا عنه: التعلم. اما القمع الذي نرى بوادره فسيؤذي الجميع. أفضل سلاح لمواجهة الإسلام السياسي هو الاحتواء الذي يفضي للمشاركة، وهذا لن تساعده لغةٌ سائدةٌ في مصر الآن تستبدل التكفير بالتخوين وتطلق الاتهامات جزافاً. اما دور الجيش الذي اضطررنا لتأييده فهو باقٍ شئنا أم أبينا، تحديداً لأن كل القوى السياسية أثبتت عجزها عن الحكم او عن العمل في الشارع او الاثنين معاً، وحتى تستطيع هذه ملء الفراغ سيظل الجيش طرفاً اساساً في المشهد السياسي. اما من يخشى عودة الماضي أو من يعول على عودته فمصر اليوم ليست هي مصر ما قبل 2011. الثالث من تموز (يوليو) 2013 اعتمد على حشد شعبي لم يحلم به انقلاب 1952 او انفراد عبدالناصر بالسلطة عام 1954. الشعبُ اليوم شريك أساس في المشهد، الديموقراطية الكاملة مسألة وقت، لكن هذه تتطلب قواعد وطنية جامعة للعمل السياسي وقدرة على ضم الجميع. عسانا لا نكرر أخطاء الماضي، القريب والبعيد، أو أخطاء الآخرين.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى