مصر وأميركا: أين الأزمة؟
ليس هناك أزمات معلّقة في الفضاء بلا تعريف لطبيعتها وأطرافها وحدودها ومستويات الخطر التي تنطوي عليها. عندما يغيب ذلك التعريف، يصبح الكلام افتراضياً يسبغ عليها ما يشاء من أهواء ويحمّلها ما لا تحتمل من استنتاجات.
في أزمة حجب ٢٩٠ مليون دولار من قيمة المعونة الأميركية لمصر، هناك من نظر إليها باعتبارها تدخلاً في الشؤون الداخلية واعتداءً على الاستقلال الوطني.بطبيعة المعونة نفسها فهي سلاح سياسي يستخدم عند اللزوم لتطويع السياسات لمقتضى مصالح الجهة المانحة. وقد استخدم هذا السلاح أكثر من مرة في التجربة المصرية المعاصرة.
في ستينيات القرن الماضي، فرضت الولايات المتحدة على مصر حصاراً اقتصادياً، وأوقفت ما كانت تقدمه من معونات في حدود الـ ٥٠ مليون دولار. كان ذلك إشارة إلى عمق التناقضات في الخيارات والتوجهات الرئيسة بين قوة عالمية عملت بعد حرب السويس ١٩٥٦ على ملء الفراغ في المنطقة إثر الهزيمة السياسية الفادحة للإمبراطوريتين الاستعماريتين السابقتين البريطانية والفرنسية وقوة إقليمية بازغة تبنت قضية التحرر الوطني وأبدت استعداداً لتحمل كلفته.
لم يكن عصياً تعريف الأزمة، فكل مواطن يدرك أن موضوعها الرئيسي هو الاستقلال الوطني. استدعاء تجربة الماضي بلا قضيته يرفع سقف الكلام دون منطق يسوغه.
بعد توقيع «كامب ديفيد» نهاية السبعينيات، كانت المعونة الأميركية بشقيها الاقتصادي والعسكري من بين ضمانات تثبيت «عملية السلام». لم تكن منحة خيرية بلا ثمن سياسي ــ وقد كان فادحاً على استقلال القرار المصري.
حتى الآن، لم يفتح ملف المعونة على أي مستوى رسمي: أين صرفت بالضبط ووفق أي أولويات وشروط؟… ما الذي استفاده المصريون وما حصدته المصالح الأميركية؟
على مدى عقود، استخدمت المعونة كسلاح سياسي من دون أي مراجعة، أو استعداد لإعادة النظر في ضروراتها للاقتصاد المصري.
في الأزمة الأخيرة، تصاعدت عبارات الضجر الدبلوماسي والإعلامي. غير أنها سرعان ما خفتت وعادت من جديد لأحاديث «التحالف الاستراتيجي».
على أي أساس وصفت الخارجية المصرية القرار الأميركي بأنه «يعكس سوء تقدير لطبيعة العلاقات الاستراتيجية بين البلدين ولا يساعد على الاستقرار في مصر». وبأي منطق قالت الخارجية الأميركية: «إننا ننظر إلى مصر باعتبارها شريكاً استراتيجياً، والولايات المتحدة ملتزمة بتقوية العلاقات معها».
الكلام الدبلوماسي ــ من الجانبين ــ يكاد لا يقول شيئاً ممسوكاً له قيمة في توصيف الأزمة، كأنه فرقعات في الهواء.
كان القرار الأميركي مفاجئاً للدبلوماسية المصرية، التي أخطرت به قبل ساعات من إعلانه، كما أنه بصياغته بدا مهيناً.
في السعي للاحتجاج على القرار الأميركي، أخطرت وزارة الخارجية وسائل الإعلام إلغاء اجتماع بين وزيرها سامح شكري، والمبعوث الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، غير أنه جرى التراجع تالياً عن هذا المستوى في التصعيد والاجتماع به في قصر الاتحادية بحضور الرئيس عبد الفتاح السيسي. رغم ذلك، فإن الأزمة سوف تمضي إلى النهاية بتداعياتها السلبية.
في خلفيتها، التي أمدتها بقوة الفعل وجعلتها ممكنة، ما تعانيه إدارة ترامب من تصدعات في بنيتها الداخلية ومستويات تماسكها، التي وصلت إلى إقالات واستقالات غير مسبوقة في معدلاتها كأنها حدث يومي معتاد.
هو رئيس شبه معزول، أشباح العزل تطارده على خلفية تحقيقات بالكونغرس عن مدى التورط الروسي أثناء حملته الانتخابية و«مدافع الميديا» تقصفه بلا توقف والتسريبات من داخل إدارته، أو من الأجهزة الاستخبارية، للصحف الكبرى تكشف مدى انكشافه السياسي. في مثل هذه الأوضاع، يصعب الحديث عن سياسة متماسكة مع مصر أو غيرها.
بصورة أو أخرى، اضطر ترامب المأزوم إلى التوقيع على قرار حجب جزء من المساعدات الأميركية بضغط من أطراف عديدة داخل المؤسسة الأميركية تضم نواباً نافذين في الكونغرس وأصواتاً مؤثرة في حزبه الجمهوري، فضلاً عن منظمات المجتمع المدني والمجتمع الأكاديمي و«الميديا» على خلفية التصديق على قانون الجمعيات الأهلية الذي ينظر إليه دولياً باعتباره مصادرة كاملة للمجتمع المدني في مصر.
وقد تلقت الدبلوماسية المصرية رسائل عديدة من أطراف أميركية وأوروبية تحذر من مغبة التصديق على هذا القانون.
بصورة أو أخرى، تعهدت مصر بتقديم مشروع قانون جديد للجمعيات الأهلية إلى البرلمان، لكن ذلك لم يحدث على أثر صعود ترامب إلى البيت الأبيض وما قد يوفره من غطاء دولي يصدّ أي ضغوط أوروبية.
استند ذلك الرهان إلى الكيمياء الشخصية التي قيل على نطاق واسع إنها تجمعه مع الرئيس السيسي.
وكانت تلك حسابات خاطئة لا تستند إلى أي معرفة بآليات صناعة القرار في الولايات المتحدة، فضلاً عن أن رجل أعمال مثيراً للجدل مثل ترامب لا يأبه إلا بأحاديث المصالح والصفقات، وأن لكل شيء ثمناً.
وفي خلفية الأزمة ما يعود إلى تآكل الدور الإقليمي المصري على نحو دعا وزير الخارجية الأميركية السابق جون كيري، ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، إلى تكرار جملة واحدة في توقيت متقارب على مسامع دبلوماسي مصري رفيع تربطه بهما علاقات عمل قديمة: «ليس لدى مصر ما تقدمه في أزمات الإقليم».
صدى الجملة نفسها تردد على لسان وزير الخارجية الأميركية ريكس تيليرسون ــ الذي كان أكثر حماسةً لحجب جانب كبير من المعونات الاقتصادية والعسكرية لمصر حتى تصلح ملفها في الحريات العامة وحقوق الإنسان.
بلغة المصالح الاستراتيجية والأمنية والعسكرية والاقتصادية، فإنّ الولايات المتحدة تحتاج إلى مصر، والاستغناء عنها مستبعد، إلا أن التراجع في مستوى الدور والقدرة على المبادرة في الأزمات الإقليمية دعا إلى شيء من الاستهانة المسبقة بردات فعلها.
بقدر الحضور المؤثر تتأكد هيبة الدول. وإذا كانت «عملية السلام» قد استدعت فكرة المعونة الأميركية لتثبيتها، فليس هناك الآن ما يقلق أمن إسرائيل، التي تحظى بمستويات في العلاقة مع القاهرة غير مسبوقة منذ توقيع اتفاقية «كامب ديفيد». مصر المنسحبة عنوان رئيسي في الأزمة وخلفيتها.
وقد كان لافتاً إقحام اسمها في أزمة كوريا الشمالية، فليس هناك علاقات مميزة بين الدولتين تتجاوز استيراد بعض غيار السلاح الذي لا يتوافر في أماكن أخرى، وهذه مسألة طبيعية ومشروعة في علاقات الدول وفق مصالحها. بدا الملف الكوري الشمالي مادة تشهير إضافية مقصودة.
ذلك كله لا ينفي حقيقة تدهور ملف الديموقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني في مصر، التي استند إليها القرار الأميركي.
بالنسبة إلى رجل مثل ترامب «شعبوي» و«عنصري» يؤمن بتفوق الرجل الأبيض ويكاد يدفع ببلاده مرة أخرى إلى أجواء الحرب الأهلية، فإنّ ذلك الملف لا يعنيه من قريب أو من بعيد، غير أنه لا يصنع القرار الأميركي وحده، وتحت الضغوط التي يتعرض لها يمكن أن يضحي بأي حليف مفترض.
المعنى أن الملف الحقوقي سوف يظل موضوعاً للضغوط والعقوبات الأميركية والأوروبية لأهداف لا تتعلق بنبل الدعوة إلى حقوق الإنسان والحريات العامة، إنما بتوظيفها لمقتضى المصالح والاستراتيجيات.
ليس لمصر مصلحة واحدة بأن تطاردها الضغوط في المحافل الدولية، أو في الغرف الدبلوماسية المغلقة، من دون أن تبادر إلى التصحيح حيث يجب التصحيح، فالحريات قضية مصرية ومصيرية في الوقت نفسه، والانتهاكات يستحيل غض الطرف عنها.
صحيفة الأخبار اللبنانية