مصر وتركيا تتحديان حال الإحباط (جميل مطر)

 

جميل مطر

 

دارت عجلة السياسة الخارجية المصرية. دعونا لا نثر جدلا حول المؤسسة أو القوة التي حركت العجلة، إن كانت داخلية أم خارجية، وإذا كانت وزارة فلا نسأل إن كان لوزارة الخارجية دور أساسي فيها، ولا نسأل إن كان لجناح في «حزب الحرية والعدالة» الفضل في تحريكها تاركا للديبلوماسـية التقـليدية أداء الوظائف المكملة والشكلية أحيانا. ولا نسأل إن كان حقا ما يتردد عن أن السياسة الخارجية عادت حكرا لمستشارين في رئاسة الجمهورية، بمعنى ان يكون الرئيس مثل سابقه يفضل أهل الثقة من حزبه وجماعته على أهل التجربة من الديبلوماسيين وخبراء العلاقات الدولية. نسمع الآن نفرا يقول إن الفضل في تحرك عجلة السياسة الخارجية يعود إلى الدين . يقصد هذا النفر أن انتماء الحزبين الحاكمين في مصر وتركيا إلى عقيدة أو هوية الاسلام السياسي واهتمام عواصم الغرب وبخاصة واشنطن وبرلين بالطابع الديني للنظامين الحاكمين في مصر وتركيا والنظام في تونس وصعود مكانة حكام قطاع غزة اقليميا ودوليا، كلها وغيرها، يقول هذا النفر من المنظرين، من النماذج التي تؤكد صعود دور الدين في رسم السياسة الخارجية.
ومع ثقتي بأن مجرد تحريك عجلة السياسة الخارجية أمر يدعو في حد ذاته إلى التفاؤل، إلا أنني من خلال التدقيق في تفاصيل تطور العلاقة بين تركيا ومصر اكتشفت أمورا تبعث على القلق. أعرف أن الطرفين يراهنان على هذه العلاقة كفاتحة طريق للسياسة الخارجية المصرية، وكقدوة للقائمين على وضع وتنفيذ سياسات أخرى اقتصادية واجتماعية وحزبية، وكدليل له قيمة كبيرة على كفاءة ديبلوماسية حزب العدالة والتنمية المسؤولة عن رسم سياسة تركيا الخارجية في عهدها الجديد. لكن تبين في الوقت نفسه أن طريق العلاقات التركية المصرية مليء بالعراقيل سواء في الجانب المصري منه أم في جانبه التركي.
لا تخفى مشكلات الجانب المصري في هذه العلاقة الثنائية، فالنظام الحاكم في مصر الذي يتفاوض الآن مع الجانب التركي ويستعد للتوقيع على اتفاقات «استراتيجية» تلزمه وتلزم مصر مستقبلا بتنفيذ تعهدات وتحمل مسؤوليات، هذا النظام لم تكتمل بعد مكونات شرعيته الديموقراطية. مصر حتى الآن، بعد شهور من خطوة الانتخابات الرئاسية، وهي خطوة مهمة ورئيسة في النظام الديموقراطي، إلا أنها تظل دولة تفتقر إلى هيئة تشريعية منتخبة وقواعد مستقرة تحكم العلاقة بين قوى النظام وقوى المعارضة وميثاق قيم يجسر الفجوة بين جماعات الاسلام السياسي وجماعة السياسة المدنية.
بمعـنى آخــر، ما زال الشـارع والرصـيف والميـدان مواقـع قـياس للـرأي والرأي الآخر وساحة تفعيل أو إبطال القرار السياسي. أتصور أن كثيرا مما سيوقعه الطرفان المصـري والـتركي من اتفاقيـات ووثائــق سـوف يبقى فاقـدا الشـرعية الكامــلة والثـقة بإمـكان تنـفيذه أو استـمرار الالتـزام بـه إلى أن يكتمل البناء المؤسسي في النظام الديموقراطي في مصر.
يقف في مقدم عناصر صنع السياسة الخارجية المصرية في حالتها الراهنة، مشكلة تعدد أشكال وممارسات التطرف لدى بعض القوى الإسلامية التي تدور حاليا في فلك الحزب الحاكم أو محسوبة عليه. المشكلة هنا تتجاوز حدود التعددية داخل السلـطة الحاكمـة وفق الأسـس المتـعارف عليها في الدول والمؤسسات الديموقراطية، والمـثال على ذلك مواقف أفراد، هم في نظر الرأي الـعام وكذلك في نظر الديبـلوماسيين الأجانب المعتمدين في مصر محسوبون على النظام الحاكم، من قضايا كثيرة منها على سبيل المثال موقفهم من مشاركة «الدولة» في مصر في أعياد الاحتفال بذكرى أتاتورك وقيام الجمهورية العلمانية التي أسقطت نظام الخلافة وأقامت الدولة الحديثة، الدولة القدوة بشكلها الحالي للنظام الحاكم في مصر..
لا يوجد، حتى الآن، ما يضمن ألا يتكرر هذا الموقف فينعكس سلبا على العلاقة بين البلدين خاصة أن أصحاب هذه المواقف هم شركاء في تنفيذ السياسة إن لم يكن في صنعها، أو أنهم قادرون على تجسيد قوة كبيرة للضغط على حكومة الحزب الحاكم لوقف تنفيذ سياسة او قرار. لذلك لم أفاجأ بما ذكره خبير في الشؤون السياسية التركية عن أن المفاوض التركي سوف يضع من الشروط والقيود في الاتفاقيات ما يعتقد أنه يضمن له تفادي الإضرار بالمصالح التركية في حال صدقت التوقعات وذهب المتطرفون الدينيون في الجبهة الإسلامية الحاكمة في تطرفهم إلى أبعد مما هو معقول ومسموح.
أمــامـنا على الجـانب الآخر حـكومة وقيادة حزبـية قــضى مستـشاروها سنوات عديدة يخططون لسياسة خارجية تركية حديثة وجـريئة بل مغامرة في العالم العربي، كان أحد أهدافها في البداية دعم الديبلوماسيين الأتراك في مفاوضاتهم مع الأوروبـيين، أو على الأقل تعوض عن أحلام لن تتحقق لو فشلت المفاوـضات وأصر الأوروبـيون على رفض منـح الأتراك الهوية الأوروبيـة. أذكر كيـف كانت الأحـلام كبـيرة عـلى جـميع المسـتويات في تركيا. وبالفـعل كان نجاح السياسة الخارجـية الجـديدة في الـبداية مبهرا. كان رائعا بل مذهلا في سـوريا، وليبيا، وحتى في مصر، رغم شكوك النظام الـسابق وخـوفه من فتــح أبـواب مصر ونوافذها على أصوات طرق صادرة من قوة إقليمية صاعدة في الشرق الأوسط.
الأوروبيون أنفسهم انبهروا بكفاءة الأتراك وجرأة سياستهم الخارجية الجديدة، واعتبروا هذا النجاح رصيدا يحسب لهم مدركين بحق وزن تركيا وإن لم تنضم مستقبلا إلى الاتحاد الأوروبي لأنها تظل «غربية» بحكم عضويتها القوية في حلف الأطلسي. وبالفعل قدم الأميركيون التشجيع اللازم للسياسة التركية الجديدة في العالم العربي أملا في أن تنشئ هذه السياسة ندا معقولا للنفوذ الإيراني المتصاعد في الإقليم.
لذلك لم يكـن تطـورا مستـحبا، بل لعـله كان خيـبة أمل كبـيرة، مـا حدث للاستثمارات التركية في ليبيا، والصدع الذي حدث في علاقات البلدين خلال الثورة على القذافي والسباق الفرنسي- البريطاني- الأميركي لفتح ليبيا ورسم مقدراتها. قيل ان تركيا أخطأت حين ترددت في غزو ليبـيا ضـمن قوى حلف الأطلسي، لكنى أقول انها أحسنت صنعا وإن تكبدت خسائر اقتصادية لأنها تلقت في الأزمة الليبية الدرس الأول في سلسلة دروس التعامل مع النظام الإقليمي العربي وهي مستجدة عليه. كان درسا قاسيا ونقطة سوداء في صفحة كان عنوانها، «سياسة خارجية بدون مشاكل».
لم تمض أسابيع قليلة إلا وكانت تركيا تتلقى درسها الثاني في سوريا. هنا يجب أن نقر بأن سجل العلاقات بين الأتراك والسوريين شديد التعقيد. لا يتعلق الأمر فقط باختلاط الثقافات والطوائف والأعراق، وإنما يتعلق أيضا بمزيج فريد من التاريخ والجغرافيا، والإعجاب والرفض، والحب والكره، والكبر والتواضع، والمال والعواطف، والحرب والسلم. هذه التناقضات تبدو أكثر وضوحا إذا وضعت في سياق مقارن، بين العلاقات الدافئة التي توطدت بين البلدين قبل نشوب الثورة في سوريا والعلاقات الراهنة التي وصلت إلى حد استعداد الجانبين للاشتباك المسلح.
أتصور أن التجربة الجديدة لتركـيا في العـالم العـربي محبـطة. لا أظن أنه كان في حساب داود أوغلو وقوع احتمالات من قبيل ما حصل لتركيا في ليبيا وما يحدث لها في سوريا والعراق وإلا لما كان أطلق على مشروعه سياسة خارجية بدون مشكلات. أعتقد أنه ربما وضع في حسابه اعتبارات عاطفية تتعلق بالدين والحنين الى العظمة العثمانية ورد كيد بروكسل وبرلين وساركوزي، وكلها أمور تصب في خانة شعبية الحـزب الاسلامي. أخشى أنه يوجد في تركيا، بحـسب ما أقرأه في الصحـافة الــتركية والأوراق البحثية، من يتوقع مشكلات داخلية أكبر بخاصة في ما يتعلق بالأقليات وفى مجال الحقوق والحريات، لأسباب غير قليلة العدد لكن يأتي في صدارتها الإحباط الذي يحيط بالتجربة الإسلامية التركية في العالم العربي.
أفهم حاجة كل بلد من البلدين إلى الآخر بعد أن اكتشف الحزبان الحاكمان أن العالم العربي ليس مجرد ساحة خواء في انتظار بطل يحط فيها مستخدما التاريخ أو الدين، أو كليهما معا. هما الآن يكتشفان معا حاجتهما الماسة إلى بطل من الخارج يحمي لهما إسلامهما المعتدل في مواجهة قوى دينية تزحف لإفساد ما يدبران.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى