مصطفى بيومي ينصف ملح السينما المصرية
يحاول الكاتب مصطفى بيومي، في أحدث كتبه “عباقرة الظل”، إنصاف عدد من الممثلين الأقل شهرة عن نجوم الصف الأول، وهم من يطلق عليهم أعمدة الطبقة الوسطى في السينما المصرية، ولم يكن مبالغا حينما وصفهم في العنوان بالعباقرة، فقد لعبوا أدوارا لا تقل أهمية عن أدوار البطولة، وأشار الكاتب إلى أنه بهذا الكتاب يدين بالحق للأديب الراحل يحيى حقي، ففي كتابه “ناس في الظل” تحدث عمن أسماهم ملح الأرض، موضحا أنهم جديرون بالحب، وكان هذا الكتاب دافعا لكتابة “عباقرة الظل”، فهدفه رد الاعتبار لنجوم الصف الثاني، أو ملح أرض السينما. فلا أحد من هؤلاء يحتل الصدارة في الأفلام المشار إليها، لكنهم فيها كالملح في الطعام، الملح سلعة زهيدة الثمن، ولكن لا مذاق للطعام إلا به، وهكذا أفلامهم لا اكتمال للبناء الفنى فيها بمعزل عنهم.
يمارس مصطفى بيومي في “عباقرة الظل” نوعا من الكتابة، يجمع بين الأدب والصحافة، تذوب فيه الحدود بين الاثنين حتى تكاد أن تتلاشى، ليس للطبيعة التي يأخذها سرده لما يتعلق بشخصيات ذات مواهب فائقة، ثم انتهت حياتها إلى التجاهل فلم تنل ما تستحق من اهتمام وتكريم، وهو في فصول الكتاب لا يهتم كثيرا بسيرة حياة الشخصية التي يتناولها، بل يركز على أدوارها السينمائية مبينا جوانب التميز فيها، ويرسم بورتريهات للشخصيات من خلال ما أدته من أدوار، فيصنع ما يشبه القصة مستوحيا أحداثها وشخصياتها من الأفلام التي برع فيها هؤلاء الذين يعرض لهم في كتابه، في محاولة للتدليل على استحقاقهم لوصفه لهم بالعباقرة.
ما تاريح الفن المصري إلا حصيلة جهد المصريين والمتمصرين والوافدين، دون نظر إلى هوياتهم الدينية وأصولهم العرقية
تشابه بلا تماثل
من هؤلاء الفنان محمد توفيق، الذي برع في الأدوار المعقدة المركبة ذات الأبعاد العميقة المتشابكة، ووصل إلى القمة التى يعز على غيره الاقتراب منها، ملقنا الدروس لمن يتوهمون أن التمثيل “همبكة” وشعر مصفف وتأنق أجوف. يقول عنه الكتاب: “محمد توفيق أستاذ يتقن المهنة ويحبها، مسلحا في عمله بالموهبة والعلم والوعي. يعرف جيدا ما يفعل، ويهرول بعيدا عن السطحية والنمطية والافتعال والانفعال الزائف”.
وبعد ذلك يشير لأدواره، ومنها حسن، عبيط الحارة في «السوق السوداء»، وابن صبيحة في «حسن ونعيمة»، والتابع المطيع للدجال المحترف في «المبروك»، ومحمد خادم اللوكاندة الشعبية في «الطريق»، والأسطى حسن الحلاق في «قنديل أم هاشم»؛ كلها نماذج ثرية لقطاع عريض من الهامشيين المهمشين القابعين في قاع المجتمع المصري.
وجوه تتشابه دون أن تتماثل، والهوية واحدة. لا يقنع محمد توفيق بالانتصار الفنى الحاسم لإنسانيتهم المحاصرة بالتحديات والعقبات، لكنه يحرض المشاهد على مشاركته في الإيمان بإنسانيتهم، ويحثه على تجاوز الأحكام سابقة التجهيز، التى تفضى عادة إلى التعالى واللامبالاة.
قدر التنازلات
يتتبع الكاتب الفنان حسن مصطفى ابتداء من دور الخفير عبدالمطلب في فيلم «الحرام»، ١٩٦٥، وهو دور صغير مميز لمكتشف جثة الرضيع، محور الفيلم، ويبدع في تجسيد الشخصية ذات الخصوصية في المجتمع الريفى التقليدي، كذلك دور صميدة، فراش مكتب البريد، في فيلم «البوسطجي» ١٩٦٨، وفيه وصل إلى ذروة جديرة بالإشادة وكل المتاح من جوائز، وحتى فيلمه الأخير «حسن ومرقص»، نصف قرن من العمل الجاد الدءوب، والحصيلة تزيد على مائة فيلم. يرتقى الفنان القدير في بعضها إلى قمة الأداء الرفيع، ويرضخ في غيرها لمتطلبات السوق فلا يتجاوز في أدائه مرحلة العمل الاحترافى الملتزم المنضبط، لكنه لا يهبط أبدا إلى هاوية الابتذال.
مصطفى بيومي لا يلوم الفنان بل يلوم المناخ الرديء الذى يضع معايير غير فنية لنجومية الممثل والمكانة التى يحتلها. ينطلق حسن محلقا عندما تُتاح الفرصة للتحليق، ويرضى مضطرا بما يُعرض عليه لأنه، وغيره من الموهوبين، لا يملكون ترف الاختيار. وهنا يؤكد الكاتب أن التنازلات قدر الفنان المصري، لذا فإزاحة بعض الثمار غير الناضجة لن يضير، ومن كان بلا أدوار سطحية رديئة فليرم غيره بحجر. والفنان يُسأل فقط عن أدائه ومدى التزامه وانضباطه.
لكنه أحيانا يحمل الفنان جزءا من مسئولية تهميشة، كما في حديثه عن الفنان رؤوف مصطفى، الذي تألق في دور صغير في فيلم «القاهرة ٣٠»، ١٩٦٦، لكنه غاب عقودا متصلة، ثم عاد في أدوار صغيرة وهامشية قرب نهاية التسعينيات، وهو على مشارف عامه الستين. لا متسع أمامه للحصول على فرصة تجسيد شخصيات تنتمى إلى الشباب والكهولة، فقدم عشرين فيلما قبل رحيله في الأول من أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٧، ولا يخلو المحصول القليل من درر ثمينة. فالمساحة التى تحرك فيها تتيح للممثل الموهوب أن يكشف عن بعض مخزون إبداعه، ويتجاوز قيود المشهد الواحد أو المشاهد القصيرة التى تعرقل عطاءه. والتحقق الكاشف المضيء نجده قبل عامين في “ديل السمكة”.
فيلسوف شعبي
يصف الكتاب نجاح الموجي بأنه “فيلسوف شعبي في زمن رديء”، فلسفته البسيطة العميقة مستمدة من نبض الشارع الصاخب الحافل بالغرائب والعجائب، خالية من المصطلحات المعقدة وكوابيس التنظير. وهو صوت الحرافيش المقهورين في سنوات الغضب والتيه والإحباط، تلك التى تطول وتتوحش وتبدو بلا نهاية. كأنه الطبعة العصرية من نجيب الريحاني، عشر سنوات فقط هي كل عمره الفني قدم فيها محصولا هائلا يتيح له مكانة جديرة بالاحترام وطول البقاء، وكان مدرسة خاصة في الأداء، وتفرد في التعبير عن ساكنى القاع المحاصرين بالتحديات والهموم.
يواصل الكتاب رحلته أمام الشاشة وخلف كواليسها منطلقا من فكرة أن الأستاذية لا يشترط أن تقترن بالنجومية، فهي حصيلة الإبداع الصادق المتوهج الذي يتجاوز فكرة البطولة التجارية، وثيقة الصلة بشباك التذاكر والموقع الذي يحتله الاسم في أفيشات الدعاية، ويستعرض تميز عدد كبير من الفنانين ينتمون لأجيال مختلفة ومدارس فنية متباينة، منهم “نعيمة الصغير.. سلطة وسلطان في الفن”، “عبدالعليم خطاب.. مزيج من الموهبة والثقافة”، “سعيد خليل المشهور المنسي”، “نجمة إبراهيم.. الملكة المتوجة فوق عرش الشر”، حيث يشير إلى ما قيل عن إشهار إسلامها قبل تأسيس الكيان الصهيوني في فلسطين، ويرى أن المسألة ليست أن تكون الفنانة يهودية أسلمت أو أنها عاشت وماتت على دينها القديم، فهي مصرية خالصة قبل أن تكون مسلمة أو يهودية.
وما تاريح الفن المصري إلا حصيلة جهد المصريين والمتمصرين والوافدين، دون نظر إلى هوياتهم الدينية وأصولهم العرقية، ومن هنا تتشكل خصوصية مصر وتفردها قبل أن يضربها الضعف والوهن.
ميدل إيست أونلاين