مصطفى محرم يعالج الواقعية في الفلسفة والأدب والفن
في كتابه “الواقعية في الفلسفة والأدب والفن” يطرح الكاتب والسيناريست مصطفى محرم سؤال: لماذا الاهتمام الآن بالمذهب الواقعي بعد أن كثر عنه الكلام من قبل، وبحث فيه الكثير من الباحثين؟ ثم يكشف وجهة نظره بأن الكلام والبحث في هذا المذهب لم يفِ حقه إلى الآن. يقول: إن قراءتي لكثيرٍ مما كُتب عنه من نقادنا جعلتني أدرك أن القليل منهم فهموه أو استوعبوا حقيقة هذا المذهب، في حين شرد الكثيرون في تفكيرهم واختلط الأمر عندهم في كتاباتهم وأحاديثهم وتطبيقاتهم. وقد يكون لديهم العذر في ذلك، فإن هذا المذهب اتسم بالمراوغة وعدم الثبات.
ويضيف محرم: نجد مثلاً في تعريف أحد القواميس الأدبية للواقعية أنها “اصطلاح نقدي استثنائي يتسم بالمرونة أو المراوغة، وغالباً ما يكون هذا الاصطلاح متكافئ الضدين وملتبس المعنى؛ حيث له من الصفات العديدة، ولكنها نادراً ما تقوم بالتوضيح”. ويرى الكثيرون أنه يمكن العمل بدون هذا الاصطلاح الذي يثير الإشكاليات في تحديد هويته. ويشارك د. محمد مندور في هذا الرأي عندما يقول: “لا نكاد نعرف لفظاً أو اصطلاحاً حديثاً في اللغة العربية قد اضطربت دلالته وتنوعت مفاهيمه مثل النظرة الواقعية التي ترجمت بها لفظة Realism الأوروبية، وكل ذلك بسبب الأصل الاشتقاقي للكلمة وهو لفظ الواقع”.
ويؤكد سامي خشبة أيضاً في حديثه عن مفهوم الواقعية “إن هذا واحد من أكثر مصطلحات الثقافة شيوعاً وقابلية للخلط، سواء في مجال الفلسفة؛ حيث نشأ المصطلح، أو في مجالات الفن، حيث استخدم أولاً بمعناه الحرفي، وحيث نشأت المدرسة الواقعية الشهيرة والمظلومة”.
ويشير م. هـ. أبرامز في معجمه، إلى أن الكتّاب الواقعيين في القصة والرواية، إنما يخلقون الوهم عند القارئ من خلال تقنيتهم على أن ما يقرأه هو صورة للحياة الواقعية. ويلوح لنا أحياناً أن بعض الكتاب يرى أن الأدب الواقعي هو الأدب الموضوعي “وكأن واقع النفس الفردي لا يصلح مادة للأدب الواقعي”، ولذلك فإن الكثيرين من المبدعين – كما يعتقد آلان روب جرييه -يحسبون أنفسهم من كتاب الواقعية وأن لا أحد منهم يصف نفسه بأنه تجريدي أو يميل للأوهام والخيال والفانتازيا دون أن يعتقد أحد منهم أنه مزيف.
ليست نظرية محددة
والواقعية في نظر آلان روب جرييه “ليست نظرية محددة واضحة بلا غموض، وتسمح بأن يقف بعض النقاد على نقيض من کتاب آخرين. بل العكس أن الواقعية علم يجمع تحته الغالبية العظمى – المجموع العام – لكتاب هذا العصر، ولا شك أنه من الضروري تصديقهم فيما يخص هذه النقطة. ويقوم روب جرييه بتبرير ذلك بأن عالم الواقع هو الذي يثير اهتمامهم الفني، وأن كل واحد منهم يحاول بقدر استطاعته أن يكون واقعياً وذلك عندما يقول: “ولكن إذا ما كانوا يجتمعون كلهم تحت علم الواقعية، فليس ذلك قيادة معركة مشتركة وإنما لكي يمزق كل منهم الآخر. إن الواقعية هي الأيديولوجية التي يُشهرها كل منهم في وجه زميله ويعتقد أنها ميزة يمتلكها وحده دون غيره“.
والواقعية ليست مقصورة على النصف الثاني من القرن التاسع عشر في أوروبا، كما يعتقد البعض، ولكنها تختلف في معناها من عصر ٍإلى عصر ومن مجتمع إلى مجتمع آخر، وتضرب بأطنابها من الناحية الفلسفية – كما سوف نری – إلى العصور الوسطى في أوروبا بل أنها تضرب أبعد من ذلك عندما ترتبط بفلسفة أفلاطون.
ويقول د. عبدالقادر القط وهو يحاول توضيح مفهوم الواقعية عندما وقع الخلاف بينه وبين د. رشاد رشدي في هذا الأمر: “المعروف لمَن يتتبع ظهور المذاهب الأدبية الكبرى ونموها وتعاقبها، أن كل عصر حضاري يخلق لنفسه مذهباً أدبياً تنعكس فيه روح ذلك العصر وطابع حضارته، وأن المذاهب الأدبية ليس لها وجود مستقل بحيث يختار الكاتب منها في أي عصر ما يحلو له، وما يعتقد أنه خير من غيره. ولن يستطيع كاتب أوروبي معاصر مثلًا أن يعود بأذواق قُرائه ومعتقداتهم وتقاليدهم الفنية إلى الكلاسيكية؛ لأن الكلاسيكية كانت تعبيراً عن حضارة عصر بعينه، فلما انقرضت هذه الحضارة فقدت الكلاسيكية قدرتها على البقاء وتلتها الرومانسية ثم الواقعية ثم الطبيعية، وأخيراً ظهرت الواقعية الجديدة لتعبر عن روح العصر الحديث، وجميع أنحاء العالم المتحضر؛ سواء أكان اشتراكياً أو رأسمالياً على اختلاف درجاته بحسب المستوى الحضاري لكل قطر من تلك الأقطار، وإن قامت إلى جانبها – كما يحدث في كل عصر – مذاهب فرعية تعبر عن جوانب ثانوية في المجتمع الإنساني الحديث”.
الواقعية والمهمشون
يقول مصطفى محرم بعض الكتاب يعتقدون أن الواقعية هي مجرد الكتابة عن الأحياء الشعبية والفقيرة وطبقة المهمشين والمسحوقين؛ ولذلك كنا في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي وأوائل الستينيات، على سبيل المثال في الملحق الأدبی لجريدة “المساء” الذي كان يشرف عليه عبدالفتاح الجمل ومجلة “الرسالة الجديدة” التي كان رئيس تحريرها يوسف السباعي، فنجد قصصاً تفيض فقراً وكآبة وسواداً وتشاؤماً، وذلك تحت شعار الواقعية، وكنت دائماً أقول لبعض أصدقائي من كتاب تلك القصص، إن الواقعية هي واقعية طبقةٍ وليست مقصورة على الكتابة عن الجزء الأسود من الحياة، وكأن معالجة روايات وقصص ومسرحيات عن الأثرياء تنتمي إلى مذهب خاص بهم. وسوف نتحدث عن كل ذلك باستفاضة ونقدم الشواهد بأقلام أصحابها حتى تتضح الأمور بالنسبة للمذهب الواقعي.
وعن السينما والواقعية يقول مصطفى محرم: بالنسبة للسينما فإن ما يتعلق بنُقادها يثير الضحك والرثاء أحياناً على ما يكتبونه عن الأفلام التي يمجدونها على أنها دُرة الأفلام الواقعية، كان – ولا يزال – الناقد منهم ما إن يشاهد فيلماً، يعرض بعض اللقطات في الشارع حتى يسارع بوصفه بأنه فيلم واقعي؛ لأن مخرجه لديه الجرأة على التصوير في الشارع. وعندما يشاهد الناقد فيلماً يعالج الفقر في أحداثه وشخصياته يمنحه على الفور الواقعية، رغم اقترابه من الميلودراما.
والمضحك في هذا أن معظم الأفلام المصرية تمتلئ بلقطاتٍ للشوارع والحارات، وتدور فيها بعض الأحداث، وذلك منذ دخلت السينما إلى مصر، ومعظم أفلام حسن الإمام وإبراهيم عمارة ويوسف وهبي، تدور حول فقراء الناس. والواقعية بريئة مما ترتكبه هذه الأفلام أو يرتكبه صانعوها.
والغريب أن معظم لقطات الشوارع التي نشاهدها في أفلام الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، والتي بَنى عليها النقاد الأجلاء أحكامهم الواهية لا تخلو من المارة المتطفلين الذين ينظرون ناحية الكاميرا أو ناحية الممثلين، ويشيرون إليهم بأيديهم؛ مما يخرج المشهد عن واقعيته مقارنة بالواقعية التي شاهدناها في فيلم دي سيکا المعروف “سارقو الدراجة”، وفي الوقت الذي نرى المخرج صلاح أبو سيف المعروف بواقعية أفلامه، قلّما ينزل بكاميراته إلى الشارع؛ فهو ينقل كل شيء إلى الاستوديو كما فعل في أفلامه الأكثر واقعية من أفلام الجيل الذي أتى بعده، مثل أفلام “شباب امرأة – بداية ونهاية – الفتوة” حيث تم تصوير معظم أحداث هذه الأفلام في الاستوديو.
وكنت على سبيل المثال – والكلام للمؤلف – أظن كما كان يظن معظم المشاهدين لفيلم “الفتوة” أن صلاح أبو سيف قام بالتصوير في سوق الخضار الحقيقي الذي كان يقع في منطقة روض الفرج. ولكنه أخبرنا ونحن طلبة في معهد السيناريو بأنه ظل هو ومهندس الديكور يذهبان كل يوم لمدة شهر تقريباً إلى السوق ليلتقطان كل ما يحدث ويعرفان كل شيء عن هذا السوق، وقام مهندس الديكور بتصوير السوق من كل جوانبه ثم قام بعد ذلك ببناء السوق في فناء الأستوديو بشكل كامل، وكذلك فعل صلاح أبو سيف في الجزء الخاص بالحي الشعبي في فيلم “شباب امرأة”، وفيلم “بداية ونهاية” ونحن نعلم أن من المبادئ المهمة التي أرست ملامح المذهب الواقعي في السينما، هو تجنب التصوير في الاستوديوهات والاعتماد على التصوير في الأماكن الحقيقية. ولكن أحياناً تضفي الأماكن الحقيقية ما يريده المخرج من واقعية، وذلك لعدم تعاون الناس الحقيقيين الذين يظهرون في الأفلام وينظرون ناحية الكاميرا أو يشيرون بأيديهم.
وتناول المؤلف بالتفصيل هذا الجانب من الواقعية فتناول الواقعية في السينما العالمية، والواقعية في السينما المصرية.
يذكر أن كتاب “الواقعية في الفلسفة والأدب والفن” لمؤلفه مصطفى محرم، صدر مؤخرا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة .
ميدل إيست أونلاين