مصــر إلــى أيــن؟ (غالب ابو مصلح)

غالب ابو مصلح

 

تمرّ مصر اليوم، بعد إسقاط نظام مبارك، في مرحلة تحولات كبيرة، وفي مناخ عالمي وتوازنات إقليمية وعالمية متغيّرة. فمتغيّرات النظام العالمي وتوازناته الجديدة سيكون لها كبير الأثر على تحولات مصر، ومتغيّرات مصر سيكون لها كبير الأثر في إعادة صياغة النظام العربي وتوازناته، كما الوضع الإقليمي.
وتتقاذف مصر اليوم قوى محلية وإقليمية ودولية متباينة، ويتضاعف أثر التدخلات والضغوط الإقليمية والدولية على توجهات مصر الجديدة.. مع وهن مصر اقتصادياً وتفاقم عجوزاتها المالية والتجارية وحاجاتها إلى التمويل الخارجي، بعد أن تم تكبيلها بالمديونية العامة المرتفعة والعلاقات الاقتصادية الجائرة مع مراكز النظام العالمي والمعاهدات السياسية والعسكرية مع أميركا وإسرائيل بشكل خاص، كما مع ارتفاع المطالب الشعبية المحقّة من حيث ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب خاصة، وهبوط مستوى الرواتب والأجور الحقيقية، وتردي الخدمات العامة والبيئة.
ومشاكل مصر الداخلية والخارجية مترابطة ومتساندة على صعيدي الداخل والخارج، كما بين المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بحيث يستحيل حل إحداها بمعزل عن معالجة المستويات الأخرى. فالخروج من معاهدة كامب ديفيد، ببنودها العلنية والسرية، يتطلّب الخروج من هيمنة الولايات المتحدة وأوروبا، ويعني ذلك الاستغناء عن الهبات والقروض المشروطة من مؤسسات النظام العالمي، كما من الأنظمة المستتبعة العربية التي تأتمر بتوجيهات إجماع واشنطن. كل ذلك يفترض سياسات اقتصادية تنموية واجتماعية مغايرة، ويفترض علاقات اقتصادية خارجية بديلة، وذلك يحتاج إلى إسقاط الطبقة الحاكمة التي تكونت، أو بالأحرى سيطرت وعمّت إبّان عهدي السادات ومبارك. وهذا التغيير يحتاج بدوره إلى تحالفات داخلية جديدة، وإلى برامج سياسية واقتصادية واضحة لهذه التحالفات، تلبّى من خلالها مطالب أوسع الجماهير اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. أي أن مصر بحاجة إلى ثورة شاملة، وليس إلى «ترقيعات» مؤقتة، ومديونيات جديدة، وتوسيع نطاق «الإحسان» للجماهير الأكثر فقراً لإسكات جوعها وكسب أهوائها الانتخابية عند الحاجة، مع إبقاء النظام السابق على ما هو عليه والاكتفاء بتغيير رموزه.

طريق النمو المشوّه

ومأزق مصر الحالي الشامل كان حصيلة أربعة عقود من النهج الليبيرالي (الليبيرالية الجديدة) الذي دفع مصر إلى طريق النمو المشوّه، المناقض للتنمية، وبإشراف أميركي، هدف إلى تفكيك النظام الناصري وتكبيل مصر بشبكة عنكبوتية من العلاقات المالية والاقتصادية والتجارية التي تفقدها القدرة على اختيار سياساتها الداخلية والخارجية.
لم تكن سياسات السادات ـ مبارك مجرد أخطاء بريئة في التقدير وقصور في الرؤى وعجز في الإدارة.. لم تكن نتيجة ظروف داخلية وإقليمية ودولية قاهرة لا يمكن التصدي لها.. كانت تلك السياسات نتيجة انحياز لخيارات فكرية ـ سياسية واقتصادية واجتماعية ذات ركائز طبقية، تطورت في أحضان «الناصرية» ووجدت فرصتها في القفز إلى السلطة بعد وفاة عبد الناصر. أدّت هذه الخيارات إلى إحداث متغيّرات عميقة في التوجهات السياسية الخارجية: أعادت تحديد مَن هو الصديق ومَن هو العدو على الصعيد الإقليمي والدولي، أعطت الأولوية لأمن النظام، أو بالأحرى إن الطبقة الجديدة الصاعدة، عبر تقوية أجهزة القمع ومضاعفة عديد السجناء السياسيين من أركان النظام الناصري السابق، وعلى حساب الأمن القومي والإقليمي عبر إضعاف الجيش وتبديل اتجاه سلاحه، وتوجيه بندقيته إلى صدور رفاق النضال السابقين في ليبيا والعراق والسودان.. أدت هذه الخيارات الجديدة إلى إحداث متغيّرات عميقة في النظام الاقتصادي والاجتماعي، بل وفي بنية الاقتصاد والتكوين الاجتماعي لمصر. تراجع دور الدولة والقطاع العام في الاقتصاد لمصلحة القطاع الخاص والرأسمالية المحلية والعالمية. أعطيت عوامل السوق الحرة الدور الأساسي في توجيه التوظيفات وتوزيع الموارد الداخلية والخارجية المتاحة، وظيفياً (بين الاستهلاك والتوظيف المنتج)، وبين القطاعات الاقتصادية، وأصبحت الأولوية المطلقة لقطاع الخدمات والمضاربات، وعلى حساب قطاعي الصناعة والزراعة، وذلك على حساب دور مؤسسات التخطيط والتوجيه الحكومية، فغيّرت استهدافات النشاط الاقتصادي. وحسب أيديولوجية الليبيرالية الجديدة، التي تضع رفع معدلات الربحية وتراكم رؤوس الأموال كهدف أساسي لرجال الأعمال المنفلتين من أية قيود اجتماعية أو إنسانية، وعلى حساب تأمين الاحتياجات الشعبية والوطنية (حقوق الإنسان الاقتصادية، الأمن الغذائي والمائي، والخدمات الاجتماعية الأساسية) وفي إعادة توزيع الناتج المحلي بين أصحاب رؤوس الأموال والقوى العاملة، أو بين الأرباح من ناحية والرواتب والأجور من ناحية ثانية.

فقدان الدور الوطني

أفقدت هذه التوجهات الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ السياسية مصر دورها الوطني والإقليمي والعالمي، وعرّضت مصالحها الحيوية للخطر والضياع، وأفقدتها حريتها واستقلالها الحقيقي.
كان لمصر الثورة دور أساسي في تحرير العديد من الأقطار العربية، والذود عن استقلال كل الأرض العربية وتحريرها من القواعد العسكرية الأجنبية، كما كان لمصر دور أساسي في تحرير القارة الأفريقية ودعم حركات التحرر الوطني في العالم. كانت مصر الثورة أحد الأركان الأساسية لمعسكر دول عدم الانحياز. بذلك احتلت مصر موقعاً مرموقاً على الصعد العربية والإقليمية والدولية، عززت استقلالها ونهضتها الشاملة، ومكّنت أمنها القومي والمائي والغذائي، ولم تقع في فخ المديونية، ولم ترضخ لابتزاز أية قوة إقليمية أو دولية. ولكن سياسات السادات ـ مبارك قلبت أوضاع مصر على الصعد الأمنية والسياسية: تخلّت مصر عملياً عن سيادتها على شبه جزيرة سيناء، فحسب اتفاقات كامب ديفيد في بنودها العلنية والسرية، سمحت بعودة القواعد العسكرية الأجنبية إليها. شاركت العدو الصهيوني في ثرواتها من الغاز، إذ أبرمت اتفاقات طويلة الأجل معه لتأمين الغاز له، ولو على حساب حاجاتها الداخلية لهذه السلعة الحيوية، بأثمان متدنية جداً لا علاقة لها بالأسعار العالمية، وتكاد لا تصل إلى كلفة استخراج الغاز وضخه إلى الكيان الصهيوني. عرّضت أمنها المائي للخطر نتيجة تنامي مطالب دول عبور نهر النيل لإعادة اقتسام مياهه، بتحريض أميركي ـ صهيوني، ونتيجة ضعف مصر وموقعها العربي والإقليمي والدولي، ونتيجة لخلافها المستمر مع السودان.
وبسبب دفعها إلى فخ المديونية، تم ابتزازها وجرّها إلى مشاركة العدو الأميركي ـ الأطلسي في حصار العراق الظالم وتدميره، مقابل شطب نصف الديون الخارجية على مصر. أي أن سياسات السادات ـ مبارك حوّلت الجيش المصري من جيش له تاريخه الطويل المجيد في النضال من أجل تحرير الأرض العربية والدفاع عن استقلالها وعزتها وكرامتها، إلى جيش مرتزق يعمل لمصلحة الامبريالية الأميركية وفي خدمة مصالحها الإقليمية.

الدفاع عن الاستتباع

وبلغت الوقاحة أو التبعية لدى بعض المسؤولين المصريين في عهد مبارك حد الدفاع عن استتباع مصر ورضوخها للإرادات الخارجية، كنتيجة طبيعية لتجدد العلاقات الدولية. قال رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشعب المصري في عهد مبارك مصطفى الفقي (وهو عضو قيادي في حزب «المؤتمر الوطني» الحاكم في مصر)، في أوائل العام 2010، إن الرئيس القادم لمصر يحتاج إلى «موافقة» الولايات المتحدة و«عدم اعتراض» إسرائيل عليه ليتم انتخابه. وعندما انتقد محمد حسنين هيكل تصريحات الفقي متسائلاً: «متى أصبح اختيار الرئيس في مصر يتم بموافقة أميركية و«عدم اعتراض» إسرائيل؟ رد الفقي في رسالة وجّهها إلى صحيفة «المصري اليوم» قائلاً إن «طبيعة العلاقات الدولية المعاصرة تقوم على التشابك والتداخل، ولا تقبل منطق العزلة والاستبعاد، وتتجه أحياناً إلى التوافق الدولي والإقليمي من أجل الاستقرار المشترك في بعض المناطق…».
يتكلم رئيس لجنة العلاقات الخارجية مصطفى الفقي بصراحة حول طبيعة العلاقات بين مصر من جهة والولايات المتحدة وإسرائيل من جهة أخرى.. إنها علاقات استتباع للسيد الأميركي ووكيله الإقليمي، وهو يتحدث عن الاستقرار المطلوب في ظل السيادة الأميركية ـ الصهيونية على المشرق العربي على الأقل. («السفير» 15/1/2010).
باختصار شديد، إن مأزق مصر الحالي هو مأزق شامل متعدد الأبعاد، فأبعاد الأزمة الاقتصادية ـ الاجتماعية ـ السياسية متساندة ومترابطة، بحيث لا يمكن حل أحد أبعادها من دون معالجة الأبعاد الأخرى. ومتغيّرات مصر وحراك جماهيرها يتزامن مع عواصف كثيرة تهبّ في وجه النظام العالمي القائم. وهذا النظام الذي مثّل توازنات دول العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية فقد مقوّماته الأساسية بسبب تبدّل موازين القوى العالمية، وأصبح على عتبة مرحلة تاريخية جديدة، وبداية حركة تغيير كبرى يشهدها العالم كل قرون عدة.
فهل يستطيع التحالف السياسي الحاكم في مصر اليوم بقيادة «الإخوان المسلمين»، تلمّس أسباب أزمة مصر الشاملة بأبعادها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ومرتكزاتها الأيديولوجية والطبقية، ومن ثم طرح برنامج سياسي اقتصادي ـ اجتماعي له أبعاده الدولية والإقليمية والدولية، ويعبّر عن مصالح وتطلعات أوسع الجماهير، ويجنّدها لإخراج مصر من مأزقها الشامل ويضعها على طريق آخر، غير الذي سلكته في العقود الأربعة المنصرمة؟ هذا هو السؤال.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى