مصير الدولة المصطنعة: حرب انفراط أم طلاق مخملي؟ (جميل مطر)

 

 
جميل مطر

أعادت أزمة أوكرانيا السياسية فتح باب النقاش في مسألة انفراط الدول التي يكتشف سكانها أنهم عاجزون عن العيش المشترك. الواضح أن مسألة الانفراط صارت تفرض نفسها. واضح أيضا أن مرحلة في الفكر السياسي وصلت إلى نهايتها بعدما حققت هدفها، وأن مرحلة أخرى بمواصفات وأهداف مختلفة تكاد تبدأ، أو لعلها بدأت فعلا.
[[[
مر التطور السياسي بفترة سادت خلالها أفكار واستراتيجيات تعلقت بضرورة الإسراع بتفتيت الإمبراطوريات العظمى. وقعت هذه الفترة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بانفراط إمبراطورية النمسا والمجر، ثم انفراط الإمبراطورية العثمانية، ومن رحمها تأسست دول عربية قرب نهاية الحرب العالمية الأولى. ومن رحم امبراطوريات أوروبا الغربية خرجت في أعقاب الحرب العالمية الثانية إلى مجتمع الدول المستقلة، عشرات الدول الأفريقية والآسيوية ودول في أميركا الوسطى والمحيط الهادي.
كان الاتحاد السوفياتي آخر الامبراطوريات التي دخلت عصر الانفراط. والجدير بالذكر أن الانفراط السوفياتي وقع في أعقاب حرب في أفغانستان وتظاهرات شملت عدداً كبيراً من دول المجموعة الاشتراكية. بمعنى آخر وقع انفراط الاتحاد السوفياتي في ظل أو بعد حالة من العنف، كما حدث في معظم حالات الانفراط.
الجديد في ظاهرة الانفراط تكشف عنه أفكار وتجارب تحث الشعوب على تصحيح الأخطاء المترتبة على المراحل المبكرة التي ظهرت فيها الدول الحديثة النشأة. وقد رأينا في الآونة الأخيرة جهودا وأساليب مبتكرة للتمرد على دولة «الوضع القائم»، وتابعنا إجراءات، بعضها عنيف، لإسقاط هذه «الدولة» وإقامة أكثر من دولة محلها. هذا النوع من التفكير لم يكن في سابق الأيام يجد دعما من جانب الدول المهيمنة، خاصة عندما انشغلت بتثبيت دعائم النظام الدولي الثنائي القطبية. وكان من بين هذه الدعائم مبدأ قدسية حدود الدول الحديثة الاستقلال وفي صدارتها الدول الأفريقية والعربية.
كان المطلوب من أفريقيا عدم المساس بالحدود المصطنعة التي رسمتها الدول الاستعمارية لمستعمراتها الأفريقية، بل انها جعلت عدم المساس بهذه الحدود مبدأ دوليا التزمته عواصم الدول الكبرى وقيادات الدول الأفريقية على حد سواء. وكان المطلوب من العرب احترام القرار البريطاني الفرنسي المشترك بتقسيم إرث الامبراطورية العثمانية فى العالم العربي، وإقامة دول تلتزم تقريبا الحدود التى سبق أن اعتمدتها الامبراطورية العثمانية لولاياتها في المشرق العربي. كان ضروريا لضمان استقرار هذه الخريطة تثبيتها في ميثاق إقليمي ودور تحملت مسؤوليته جامعة الدول العربية، كمنظمة إقليمية تضم دولا ذات سيادة.
[[[
بعد مرحلة استقرار غير متوازن، عدنا الآن لنناقش عواقب التخلي عن التزام الجميع بمبدأ عدم المساس بالحدود، سواء الحدود التي رسمتها قوى استعمارية آفلة، أو رسمتها نخب وجماعات محلية استشعرت في وقت ما أن هناك ما يكفي من الوشائج بين الناس ما يسمح بإقامة دولة تحتفظ بحدود ثابتة ومستقرة. واضح لنا الآن أن عددا لا بأس به من عواصم الدول التي حرمت في وقت من الاوقات المساس بحدود الدول التي خرجت من رحم امبراطوريات قديمة، لا يجد حرجا في ان يجد التبرير المناسب لفكرة تعديل الحدود، أو تقسيم الدولة على شعبين أو ثلاثة في حال لم تفلح الدولة التي اصطنعها المستعمر في خلق الوشائج اللازمة لصهر هذه الشعوب في أمة واحدة.
واضح لنا أيضا أن جماعات سكانية متزايدة العدد صارت تفصح عن رغبتها في الانفصال وإقامة دول خاصة بها. تأكد بعضها أن الدولة القائمة لم تعوضها عن هوية اكتشفت أنها ناقصة، أو عن لغة خاصة بها صارت عزيزة عليها وتخشى أن تفقدها، أو عن دين أو مذهب تعتنقه ولكن لا تعترف به الدولة أو تفضل عليه دينا أو مذهبا آخر. تأكد بعض آخر أن ثروات في أرضه راحت لخدمة ورفاهية شعب آخر أو جماعة أخرى، وان الوظائف والمزايا الأعظم والأوفر تحصل عليها جماعة أو فئة هويتها من هوية الحاكم أو دينها من دينه أو لغتها من لغته.
[[[
ما جدوى مبادئ تضعها الدول الكبرى باسم المجتمع الدولي وتفرضها على جماعات عرقية أو طائفية أو اجتماعية تشعر بالغبن والظلم الواقع عليها في دول أقامها آخرون وفرضوا عليها الالتزام بشرائعها وحدودها. كان واضحا لكل من قرأ عن السودان أو زاره أو اقترب منه ان الدولة السودانية الشاسعة لن تبقى سالمة وموحدة طالما استمر أهل الجنوب وأهل الغرب وأهل الشرق يشعرون بأنهم مجبرون على تقديم فروض الطاعة والولاء لدولة لا تجسد أحلامهم ولا تلبي أو تعترف بأبسط مقومات وجودهم وهي الهوية، وبأول حقوقهم وهو الحق في حياة كريمة في بلد يتساوى فيه المواطنون. كان هذا الأمر واضحا امامنا منذ ستين سنة خلت، والأوضح منه الآن هو ان انفصال الجنوب فتح شهية قبائله على التمرد ضد هيمنة القبيلة الأكبر وإقامة دويلات قبلية مستقلة.
بقدر وضوح الرؤية بالنسبة لمستقبل أقاليم السودان وشعوبه التي لا يمكن ان تتعايش سلميا في إطار دولة «موحدة أو فدرالية»، بقدر ما يتزايد عدد الذين يتوقعون، ان عاجلا أم اجلا، قيام دولة كردية تضم شمال العراق وشمال شرق سوريا وشمال غرب إيران وشرق تركيا. لن يقبل قادة الأكراد، تحت ضغط الرغبة الشعبية في الرخاء والحرية، ان تذهب ثروات شعبهم لشعوب في الجوار هم أنفسهم منقسمون ومتقاتلون.
يقول أهل اسكتلنده، أو غالبيتهم، انهم لن يقبلوا باستمرار انضوائهم تحت راية المملكة المتحدة، التي كان لهم أكثر الفضل في قيامها وفى توسعاتها الامبراطورية. من حقهم، أن يعود إليهم وإلى اجيالهم القادمة عائد الثروة النفطية من بحر الشمال، وان يقرروا بأنفسهم ولأنفسهم ان كانت عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي تلائمهم. ليس المهم ان تلائم شعوب انكلترا وويلز وايرلندا الشمالية وهم الأغلبية، المهم ان يكون للاسكتلنديين رأي، وأن يكون رأيهم في علاقتهم بأوروبا مسموعا من خلال دولة تحمل اسمهم وتخصهم.
وهناك في أقصى شرق أوروبا، يقف سكان أوكرانيا حائرين. يسألون، كما تعودوا ان يسألوا على امتداد قرون عديدة، من نحن؟ هل نحن أوروبيون، أم «روس سلافيون» أم بين بين؟ لا يوجد اجماع في الإجابة على هذا السؤال، لم توجد إجابة في أي عصر، ولن توجد في المستقبل المنظور. ما زالت روسيا تعتبر كييف، عاصمة أوكرانيا، المصدر الأساسي لتراث روسيا وهويتها الارثوذكسية، منذ كانت هناك في قديم الزمان كونفيدرالية سلافية سقطت تحت أقدام المغول في القرن الثالث عشر. وما زال الأوكرانيون يعيشون على ذكرى وآثار حرب الثلاثين عاما التي نشبت بين جيوش روسيا وبولندا وتركيا وفرنسا وفرسان القوزاق في صراع على أراضي أوكرانيا الغنية، وانقسمت البلاد وقتها إلى جزء انضم للإمبراطورية الروسية وجزء إلى الامبراطورية النمساوية، وفى الجزء الخاضع لروسيا حرمت السلطات استخدام كلمة أوكرانيا، وجرى استبدالها بـ«روسيا الصغيرة».
قيل ان دبلوماسيا بريطانيا كتب في العام 1918 عن الهوية الناقصة أو المفقودة في أوكرانيا، يقول إنك «إذا سألت فلاحا عاديا عن جنسيته أجابك أنه أرثوذكسي، وإذا سألته إن كان روسيًّا أو بولنديًّا أو أوكرانيًّا أجابك بأنه فلاح، وإذا سألته بأي لغة تفضل الحديث، أجابك أنه يتحدث فقط باللغة المحلية، أي بلغة القرية التي يعيش فيها».
لم تظهر أوكرانيا على خريطة رسمية إلا بعد سقوط الامبراطوريتين الروسية والنمساوية في الحرب العالمية الأولى، وجاء استقلالها كدولة على أيدي الألمان قبل أن ينسحبوا فاحتلها البولنديون. وعندما خضعوا نهائيا لروسيا السوفياتية جرب جوزيف ستالين الجورجي الأصل الانتقام منهم، ففرض عليهم في العام 1922 نظام المزارع الجماعية لإذلالهم. وفي العام 1954 قرر خروتشوف السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفياتي الأوكراني الأصل تعويضهم، فتنازل لهم عن إقليم شبه جزيرة القرم 1954.
يبقى حتى اليوم ولاء الشعب الأوكراني موزعا بين روسيا والغرب، أو توخيا للدقة يجدر القول إن في أوكرانيا ثلاثة شعوب، شعب في الشرق وشعب في الغرب، وشعب في الوسط. الجدير بالملاحظة أن تصويتا جرى على مشروع قيام اتحاد اقتصادي مع روسيا، جاء في نتيجته أن 64 في المئة من سكان شرق أوكرانيا صوتوا لمصلحة المشروع، و16 في المئة من سكان الغرب و29 في المئة من سكان الوسط. وفي استفتاء آخر صوت لمصلحة الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي 66 في المئة من سكان الغرب، و18 في المئة من سكان الشرق و23 في المئة من سكان الوسط. على ضوء هذا الحال، يجد كثير من المحللين صعوبة في الإقرار بأن أوكرانيا دولة قابلة للحياة، فالشرق فيها شرق والغرب غرب، وكلاهما يؤكدان كل يوم ان مساراتهما متناقضة.
لا استبعد مصيرا لأوكرانيا، ولجنوب السودان ودول في إقليم الساحل الأفريقي، ودول في المشرق العربي، يختلف عن المصير الذي ينتظر بريطانيا لو أصرت إسكتلنده على الانفصال. لا يجوز ان تستمر الأمم مشدودة إلى تجربة نجحت في حالات وبشروط معينة، وفشلت في حالات أخرى حين غابت أو بدأت تغيب هذه الشروط. أقصى ما نتمناه، إن كان التغيير ضروريا وواقعا لا محالة، ان يستلهم تجربة انفراط تشيكوسلوفاكيا، حين وقع «الطلاق المخملي» بين تشيكيا وسلوفاكيا. وقع في هدوء وسلام ولم ترق في سبيله نقطة دماء واحدة.

صحيفة الشروق المصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى