فن و ثقافة

مظفر النواب يتلألأ في ضمائرنا *(1)

 

أن تحتفل مدينة السليمانية الكردية وكردستان العراق عموماً بالشاعر العربي الكبير مظفر النواب، فهذا حدث مهم، بل بالغ الأهمية، وهو يدلّل على عمق الترابط الوثيق  بين العرب والكرد، وخصوصاً بين المثقفين، وهو تأكيد جديد على أن العلاقة العربية- الكردية، ببعدها الثقافي والإنساني تحكمها أهداف مشتركة وتستند إلى قيم مشتركة وجامعة أيضاً، وهي قيم الحرّية والجمال والمساواة والشراكة والعدل والسلام والتسامح .

ولعلّه منذ وقت مبكر عبّر اليسار العراقي وعلى نحو أثير ومتميّز منذ أواسط الثلاثينات عن صميمية تلك العلاقة حين رفع شعار ” على صخرة الأخوة العربية – الكردية تتحطّم مؤامرات الاستعمار والرجعية”، وأظنّه الشعار الأكثر مضاءً وواقعية حتى الآن في العيش المشترك والاعتراف المتبادل بحق تقرير المصير واحترام الخصوصيات والهويّات الفرعية في إطار الهويّة العامة .

وتتأتّى أهمية حدث الاحتفاء بمظفر النواب من محاولة إنعاش الذاكرة المشتركة لنا جميعاً كمثقفين عرباً وكرداً ومن سائر المجموعات الثقافية المتعدّدة المشارب والألوان المختلفة والمؤتلفة في آن، لاسيّما بالسعي لتعظيم الجوامع وتقليص الفوارق، خصوصاً وإن محاولات عديدة أريد لها فصم عرى العلاقة الوثيقة لأسباب موضوعية أو ذاتية، خارجية أو داخلية، لكن تلك العلاقة التي تعمّدت بروح المحبة والتآخي ظلّت متّقدة ولم تخبُ أو تنطفئ بالرغم من عاديات الزمن.

وحسناً فعل “مركز كلاويژ” حين اختار عنواناً للمناسبة له أكثر من رمزية ألا وهو ” مظفر النواب يتلألأ في ضمائرنا”. إنه باختصار يريد القول إن النواب يحتلّ جزءًا حيويّاً من وجداننا وذاكرتنا الثقافية المشتركة ، لما يمثّله من رحلة إبداعية ونضالية وإنسانية، ناهيك عن صدقية جمالية شفيفة ورائعة.

ما أحوجنا اليوم، ولاسيّما في الوسط الثقافي لتجسيد ذلك عملياً، فشاعر كبير بقامة مظفر النواب مثّل بروحيته الإيجابية وانفتاحه ورؤيته الإنسانية، هذا التفاعل والتواصل والترابط العضوي في العلاقة بين المثقفين العرب والكرد، مثلما مثّل شاعر كردستان الكبير شيركو بيكه س ذلك بإعلائه روح التآخي والتواصل الثقافي الكردي – العربي، وعبّر كلاهما عن نبض الروح  الإبداعية وجمالها الإنساني الباهر، فالأدب بعامة والشعر بخاصة يمكنه أن يجسّد تلك الحقيقة بسطوع وصميمية وبراءة وعمق وامتداد .

*****

أحياناً حين تلتقي مبدعاً كبيراً كنتَ قد تعرّفت عليه من خلال نصّه أو منجزه الثقافي، فتقول مع نفسك: يا ليتني لم ألتقِ به، كي تبقى صورة منجزه مشرقة أنيقة جميلة، فثمة تناقض كبير، بل وصارخ أحياناً بين السلوك اليومي والاجتماعي وبين التحضّر والتخلّف وبين المعرفة والثقافة، وخلافاً لذلك حين تلتقي مبدعاً آخر وتكون قد قرأت له أو اطّلعت على منجزه الإبداعي، تتمنّى ألّا تفارقه، بل تزداد محبة له، لأن ثمة انسجام بين ما يقول وما يفعل، فالصورة الفائقة المبهرة لشخصه التي بناها من خلال ما كتبه أو صرّح عنه أو قام به ومن خلال أفعاله ومواقفه ظلّت منسجمة ومتّسقة   على نحو مشرق ورائع بين القول والعمل، فليس ثمّة هوّة بين الإثنين.

ومبدعنا المحتفى به ” مظفر النواب”، من الصنف الثاني، الذي ما إن تتعرّف عليه حتى تنجذب إليه، وقد أتاحت لي الفرصة لفترة خمسة عقود ونيّف من الزمان أن أقترب من مظفر النواب، فأزداد تعلّقاً وإعجاباً به ومودّة ومحبة له، فهو من طينة من تحلو لك رفقته، حيث تأنس بصحبته وتكتشف يوماً بعد آخر الكثير من الخصال والسجايا الإنسانية الفريدة والأخلاقية النبيلة التي تمثّل قيماً عليا يسعى البشر لتجسيدها أو تمثّلها.

ولم أعرف مبدعاً كبيراً كان يُحكِمُ الصلة على نحو فائق بين الأقوال والأفعال وبين الإبداع والسلوك والأخلاق والسياسة والثورة والجمال والصلابة المبدأية والمرونة العملية والكبرياء والتواضع وحب الحياة والزهد بها مثل مظفر النواب،  ولعلّ ذلك ميزان ذهبي من العدل ظلّ مرافقاً له طيلة مسيرته الإبداعية والنضالية وعلى المستويين الشخصي والعام حيث كان رقيب نفسه باستمرار، وظلّ كلّ متاعه من هذه الدنيا الفانية، حزمة قصائد ورسوم وكأس نبيذ وذاكرة خصبة وضمير يقظ لم يخدر أبداً، وكان برفقة ذلك أيضاً محبّة الناس واحترامهم له لشعورهم  بنقاء سريرته وطهريّته وترفّعه عن الصغائر، وهو ما صنع مجده ورفعته وعلو كعبه، فأضحى أقرب إلى “القديس” بتعابير المؤمنين و”المعبود” بتعبير العاشقين.

وخلال مسيرته حافظ النواب على صوته الخاص وإيقاعه المتميّز ونبرته الشائقة، وسط ضوضاء هائلة، وحسب الروائي الغواتيمالي أستورياس الحائز على جائزة نوبل في الآداب العام 1967 “الإنسان إله بسبب من صوته”، فالصوت يذهب إلى الإذن مباشرة، ومنها إلى الدماغ، ومن هذا الأخير إلى القلب، فيعطي الإحساس، وهكذا هي الموسيقى تذهب إلى القلب والروح، وذلك هو صوت مظفر النواب الشديد الإحساس والتأثير الحسّي، لاسيّما وهو يسعى للمحسوس من الأشياء، حيث  تمتزج أوتار صوته بالروح، فيخرج مليئاً ونافذاً، والحسيّة هي ما مثّله الفيلسوف الانثربولوجي الألماني لودفيغ فيورباخ.

وإذا كان مظفر النواب قد انشغل بالحريّة باعتبارها القيمة العليا في الحياة، فثمّة عشق صوفي يتماهى مع حيرته وقلقه الإنساني، “فالمكان زمان سائل والزمان مكان متجمد” حسب ابن عربي، وهكذا كانت غربته في المكان والزمان تنتقل معه وتعيش فيه وتسافر إليه:

 

“هل في الدور من عشق لهذا المبتلى ترياق

نقطة في العشق تكفي

فلا تكثر عليك الحبر والأوراق”

( من قصيدة قل لأهل الحي)

أية شيفرة سرّية خاصة تلك التي تحتويها لغة مظفر النواب ومفرداته الإبداعية الباذخة:

” لا تسل عنّي لماذا جنّتي في النار

جنّتي في النار

فالهوى أسرار

والذي بغضي على جمر الغضا أسرار

يا الذي تطفي الهوى بالصبر لا باللّه

كيف النار تطفي النار؟

يا غريب الدار

إنها أقدار

كل ما في الكون مقدار وأيام له

إلّا الهوى

ما يومه يوم…ولا مقداره مقدار

(من قصيدة المساورة أمام الباب الثاني)

في سهله الممتنع ثمّة صور غير مألوفة في الشعر الشعبي العراقي من قبل، ولنلاحظ هذه الصورة :

” آنه يعجبني أدوّر عالكَمر بالغيم ..

ما أحبّ الكَمر كلّش كَمر

(من قصيدة الشناشيل)

*****

*الأصل في هذه المادة الكلمة المفتاحية التي ألقاها الدكتور عبد الحسين شعبان في احتفالية “مظفر النواب يتلألأ في ضمائرنا”، في مدينة السليمانية ( فندق الميلينيوم) في 22/2/2020. وقد نشرت في جريدة الزمان (العراقية- بغداد/لندن) على حلقتين الأولى يوم الخميس 23/4/2020 والثانية يوم الأحد 26/4/2020.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى