فن و ثقافة

مظفر النواب يتلألأ في ضمائرنا *(2)

 

 

حين نشر مظفر  النواب قصيدة ” الريل وحمد” في العام 1959 وكانت بمبادرة من علي الشوك وتلقفها بالتقييم والترحيب والإعجاب عدد من مجايليه منهم : سعدي يوسف وبلند الحيدري والفريد سمعان ورشدي العامل وعبد الرزاق عبد الواحد، برز على الفور بصفته شاعراً جديداً يملك كل شروط الحداثة ومواصفات التجديد، وجاءت الإشارة بقدر غموضها ورمزيتها، واضحة جليّة، فقد كان أمام النقاد نوع من الأدب الجديد المكتوب بالعامية العراقية أو باللهجة الشعبية الجنوبية الحميمة، فهو لا يشبه حسين قسّام والحاج زاير والملّا عبود الكرخي، على الرغم من إعجابه بهم ، وخصوصاً الحاج زاير، ولم يسع لتقليدهم، بل عمل للخروج على التقليد مثلما سبقه إلى ذلك نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي في قصيدة الفصحى الجديدة التي تمرّدت على القوالب.

وحجزت قصائد ” يا ريحان” و”حسن الشموس” و ” حجّام البريس” و”زرازير البراري” و” ابن ديرتنه  حمد” و ” حِنْ وآنه حَنْ” و”روحي” و” البنفسج” مكاناً خاصاً لمظفر النواب في صدارة الشعر الشعبي العراقي، إضافة إلى قصائد أخرى، وفي منفاه ارتقى مظفر إلى المكانة التي يستحقها في سلّم قصيدة الفصحى الحديثة التجديدية، بحكم الفضاء الذي تمتّع به والبيئة التي عاش فيها وقد انحسرت في نتاجه الإبداعي القصيدة الشعبية بشكل عام إلّا باستثناءات محدودة، وهكذا توزّعت قصائده حيث احتلّت المرحلة العراقية 1959-1969 القصائد العامية، ومن أهم انجازاتها مجموعتين هما ” الريل وحمد” و”حجّام” ، أما المرحلة العربية أي من العام 1969 وعلى مدى نحو 50 عاماً فقد عرفت قصائد الفصحى وضمتها مجموعات أساسية هي ” وتريات ليلية” و”أربع قصائد” و”المساورة أمام الباب الثاني”، إضافة إلى عشرات القصائد غير المنشورة والمسجلة على أشرطة كاسيت.

وامتازت قصيدة النواب باللغة الآسرة والمفردة الحيّة، بل إن بعضها استخدم لأول مرّة، لاسيّما برمزيتها وبُعدها عن المباشرة، حيث كان يفيض عليها من روحه، فتصبح كائناً حياً تشبه عطاءه وتمرّده وصدقه ، ففي قصيدة “الريل وحمد” يقول :

“أرد أشري جنجل

وألبس الليل خزامة

وأرسم بدمع الضحج

نجمة

وهوه

وشامه

ويا حلوة بين النجم

طبّاكَة لحزامه

وهودر هواهم

ولك

حدر السنابل كَطه

كضبة دفو، يا نهد

لملمك … برد الصبح

ويرجفنّك فراكين الهوه … يا سرح

يا ريل….

لا.. لا تفزّزهن

تهيّج الجرح

خلهن يهودرن..

حدر الحراير كَطه”

*****

لقد اكتشف النواب المدى الذي تحمله المفردة العامية فدفع به إلى القصوى ووظفه برياديّة بحيث أصبح مفتاحه كما يقول إلى “الفضاء  الإبداعي الأوسع”، بما تملكه تلك المفردة من رمزية وطاقة حسيّة ولنلاحظ الاستخدام غير المألوف مثل:

افيش.. شمني ..

بشهيك الروح،

شكَة طلع

فُوج بحنين الصدر ،

طوفان دك ورصع

ليش آنه وانته بعطش؟

موش احنه نبعه ونبع

(من قصيدة فوك التبرزل)

وكلمة “أفيّش” تدلّ على رائحة الشّم ذات البعد الحسّي وكأنها رائحة محسوسة، أي أنها مبهرة وذات تأثير على المتلقي.

أطرن هورها امصكك

واصيحهن عليك اجروح

يجحلن چالمطبجات الزرگ

صلهن يشوغ الروح

واجيك اشراع …ماهو اشراع

عريانه سفينة نوح

اصيح اشّاه … مابياش

يبني جحلت يبني

ويجيني امن الرضاع الحيل

موش امك واندهلك…

أشيلن حملك امگابل أنگلنه

وأشيلك شيل

أكابر… وانه اطر الهور

وأعدل ظهري للشمات

چني امگابل ويه الريل

أصدن لليصد ليه ابشماته

وفوگ اشيلن بيرغ الدفنه

عمد للسيل

كلها اولا شماتة عدو…

يتشمشم خبر موتك وراي ابليل

يازين الذي ابطرواك

دلتنه الچبيره اتگوم للخطار…

(من قصيدة حسن الشموس)

 

وهكذا يستخدم مظفر النواب مفردة حسّية مثل كلمة “اشّاه” التي هي دليل على البرد ويمكن أن تُقال في لحظة تأثر أو مفاجأة. كما يستخدم عبارة “أحّاه” – التي هي دليل على الألم أو تعبير عن الحزن أحياناً، حتى أن النسوة اللواتي يلطمن على فقدان أحبتهن يردّدن أحّاه.. أحّاه بما فيها في المناسبات الحسينية، وبالتعبير العامي فكلمة “أحّاه” هي أقرب إلى كلمة “آخ”،  وهي تقال حين يعتصر الإنسان الألم للفراق أو للصدمة أو لما يحصل له من ضغط يتعرض فيه للأذى والألم فيصرخ “آخ”.

” أحاه، شوسع جرحك ما يسدّه الثار يصويحب

وحكَ الدم ودمك حار

من بعدك ، مناجل غيظ ايحصدن نار

شيل بيارغ الدم فوكَ يلساعي

صويحب من يموت المنجل يداعي

(من قصيدة مضايف هيل )

ويهمّني أن أشير إلى أن قصيدة مضايف هيل “جرح صويحب” كان قد لحّنها الفنان سامي كمال وحين قام بتأديتها (التمهيدية) في سهرة خاصة في منزل شقيقتي سلمى شعبان في العام 1984 في دمشق، أعجب الجواهري بكلماتها وآدائها الفني وردّد “يا صويحب…” مع آهات خرجت منه في حين كان يداعب حبّات مسبحته، واحدة واحدة، واثنتان اثنتان، ويشرد قليلاً، وكأنه يستذكر قصيدته ” أخي جعفر”، وهو ما دعا طارق الدليمي الذي كان يجلس بجانبه إلى استعادة القصيدة المذكورة وكأنه يريد أن يرسم أحداثها إلى صديقنا داوود التلحمي رئيس تحرير مجلة الحرية الفلسطينية (الجبهة الديمقراطية)،  والتي يقول في مطلعها:

أتَعْلَمُ أمْ أنتَ لا تَعْلَمُ                   بأنَّ جِراحَ الضحايا فمُ

فَمٌّ ليس كالمَدعي قولةً                               وليس كآخَرَ يَسترحِم

يصيحُ على المُدْقِعينَ الجياع      أريقوا دماءكُمُ تُطعَموا

ويهْتِفُ بالنَّفَر المُهطِعين                            أهينِوا لِئامكمُ تُكْرمَوا

أتعلَمُ أنَّ رِقابَ الطُغاة                                أثقَلَها الغُنْمُ والمأثَم

وأنّ بطونَ العُتاةِ التي                               مِن السُحتِ تَهضِمُ ما تهضم

 

إلى أن يقول

أخي ” جعفراً ” يا رُواء الربيع                إلى عَفِنٍ باردٍ يُسلَم

ويا زَهرةً من رياض الخُلود                      تَغوَّلها عاصفٌ مُرزِم

 

وكان الجواهري قد نظم هذه القصيدة في العام 1948 التي تعتبر بحق ملحمة شعرية بنحو مئة بيت، إثر استشهاد شقيقه جعفر في المظاهرات الاحتجاجية الشعبية التي سمّيت فيما بعد “وثبة كانون” ضد ” معاهدة بورتسموث” (جبر- بيفن)، وألقاها في محيط جامع الحيدر خانة ببغداد بمناسبة مرور سبعة أيام على استشهاد شقيقه.

أما “إش” فهي تعني طلب الصمت أو الرغبة في السكون والهدوء، وأحياناً تصدر بلغة الأمر أي “صه”، ولنلاحظ استخدامه الأولي:

إش، لا توعّي المزنة

وتسودن حنيني بعذرك

أنه كربت بور الفلا

وطشيت صبري وصبرك

وسكيت ، وضميت الشمس لليل

عود انتظرك

تاليها ريحان وملح

جا هذا كَدري وكَدرك؟

(من قصيدة أيام المزبّن )

*الأصل في هذه المادة الكلمة المفتاحية التي ألقاها الدكتور عبد الحسين شعبان في احتفالية “مظفر النواب يتلألأ في ضمائرنا”، في مدينة السليمانية ( فندق الميلينيوم) في 22/2/2020. وقد نشرت في جريدة الزمان (العراقية- بغداد/لندن) على حلقتين الأولى يوم الخميس 23/4/2020 والثانية يوم الأحد 26/4/2020.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى