معاقرة «فايسبوك» تصيب بالإدمان … والتعافي يكمن في رغبة «المريض»

هو موجود لكنه ليس كذلك. حواسه تعمل في شكل طبيعي، لكنها معطّلة. يمارس حياته في شكل يبدو اعتيادياً، فيذهب إلى العمل صباحاً ويعود مساء، لكنه ليس كذلك. تواصله في البيت يبدو عادياً، لكنه ليس كذلك. علاقته بأصدقائه مستمرة، لكنها في واقع الحال متوقّفة. يلتزم بعدم الحديث عبر هاتفه المحمول أثناء القيادة لتكون قيادة آمنة، لكنها في واقع الحال بلغت الخطورة. يقول أنه على ما يرام وأن «كلّه تمام»، لكن كلّه ليس تماماً.

وعلى رغم أنه مهندس ناجح وزوج مسؤول وأب عطوف وابن محب وجار شهم وصديق كريم، إلا أنه ليس موجوداً بالمعنى المعروف. فقبل نحو خمس سنوات، دخل عالم الـ «فايسبوك»، ومنذ ذلك الحين تحوّل إلى شخص موجود لكنه غائب. وتحوّل استخدامه الـ «فايسبوك» من أداة للتواصل الاجتماعي إلى مقر للانعزال الشخصي. ففي العين المجرّدة، يبقى هو المهندس والزوج والأب والصديق والجار، لكن مع إضافة صفحة «فايسبوك» التي تلقي بظلالها الوخيمة على تفاصيل حياته، والتي يراها الجميع باستثنائه.

وعلى مدى ساعات النهار والجانب الأكبر من ساعات الليل، يبقى متصلاً بعالمه الافتراضي حيث آلاف الأصدقاء والمتابعين والمتواصلين. يعمل لبعض الوقت، وعينه على الصفحة. يتحدّث لبعض الوقت وعينه على الصفحة. يقود السيارة لبعض الوقت وعينه على الصفحة. يدوّن ويقرأ ويضغط «لايك»، ويتّخذ قرار «شير» كأنه أحد قراراته المصيرية في حياته اليومية. يغرق في أغوار الصفحة تماماً، فإن حدّثته زوجته تظاهر بأنه يسمعها، معضداً تظاهره بتكرار بضع كلمات مما قالته وكأنه يسمعها. وإن تكالب عليه الأبناء للتحدّث وتقديم لائحة مطالب وتظلّمات، قايض تلبية المطالب بتركهم إياه يتفرّغ لتواصله العنكبوتي مع عالمه على «فايسبوك».

وعلاقته بأصدقائه وأقاربه أصابها عطب حيوي ولحق بها جمود عاطفي، بعدما تحوّل في لقاءاته بهم إلى وحدة تجمعه بالمقعد الذي يجلس عليه، لفرط انغماسه في وقائع الحياة الدائرة رحاها على «فايسبوك».

فقد حقّق نجاحاً هائلاً، وكوّن تحالفات قائمة مع دوائر من الأصدقاء الافتراضيين والمعارف عبر البحار والمحيطات، وأخرى بين زملاء المدرسة المقيمين في أرجاء المعمورة، وأصدقاء الجامعة المبعثرين يميناً وشمالاً، وأصبح عضواً فاعلاً في مجموعة عشاق موسيقى الثمانينات، وأخرى تناقش قضايا فلسفية، وثانية غذائية، وثالثة سياسية، ورابعة هزلية، ناهيك عن مجموعات خاصة بالعمل الهندسي أو تبادل النكات والقفشات العنكبوتية.

لقد أضحت حياته مجموعة من الحلقات الافتراضية المتّصلة لا تشوبها شائبة واقعية، أو تعكّر صفوها مشكلة حياتية. فهو صامت ساكن طوال الوقت، إما ينقر على أزرار لوحة التحكم، أو يفكّر في تكوّن مجموعات جديدة من أصدقاء عنكبوتيين، أو ضمّ حلقة فريدة من معارف الشبكة لخلق منصة نقاشية جديدة. وربما يكون باله مشغولاً بالمناقشة المحتدمة بين أعضاء إحدى المجموعات، والذين لم يتواصل معهم تحت ضغط العمل أو لظرف أسري طارئ. أو أنه يخطط ويدبّر للقاء مجموعة «شباب تحت الخمسين» في عطلة نهاية الأسبوع، من دون الزوجات.

وكانت الزوجة أول من شخّص حالة شريكها. فحين تيقّنت من المشكلة، أخضعته لدراسة متأنية، وأجرت عليه اختبارات معملية. فقد صار الحديث الوحيد الذي يستهويه هو حديث «الفايسبوك». جلّ اهتمامه وأفكاره انحصر في ما جرى على «فايسبوك» صباح اليوم أو ما طرأ مساء. من كتب ماذا؟ وماذا كان ردّ الفعل؟ ومن تدخّل لعمل «شير»؟ ومن اكتفى بالنقر على «لايك»؟ وما إن تعرِّج الزوجة بدفة الحديث عمن فعل ماذا في الحياة الواقعية، حتى تتجمّد ملامحه وتتجرّد مشاعره ويعود إلى الوجه البلاستيكي المعتاد. وربما يظهر عليه النعاس وتتسارع وتيرة التثاؤب حيث لا مهرب متاح للعودة إلى حديث الفايسبوك وأغواره.

أيقنت الزوجة أن زوجها ضربه إدمان فايسبوك اللعين. وعرفت أن العلاج ليس سهلاً والتعافي ليس يسيراً. وبعد مواجهات أسرية وصراعات زوجية، رضخ معترفاً بالمشكلة وموافقاً على محاولة العلاج. وهنا ظهرت أعراض الانسحاب. وافق الزوج على خلع صفحة فايسبوك على باب البيت، أو كلما وُجد في مناسبة أو لقاء أسري. وهنا دخل الزوج في حالة من الصمت الذي انقلب خرساً. فلا حديث يغريه بالمشاركة، ولا برنامج تلفزيوني يجذبه للمشاهدة، ولا حدث سياسي يدفعه إلى المناقشة. وإن أجبرته زوجته على الكلام، وجد نفسه لا يتحدّث إلا عن تدوين كتبه على صفحة فايسبوك صباح اليوم أو تعليق ورده بعد الظهر، وما أحرزه من «لايك» وما أنجزه من «شير».

وعلى رغم أن باقي أفراد الأسرة من مستخدمي فايسبوك، إلا أنه الوحيد الذي وقع في فخ الإدمان. طبيب الأمراض النفسية الذي لجأت إليه الزوجة سراً، أخبرها أن فايسبوك بعوالمه الافتراضية التهم حياة الزوج الواقعية. وبدلاً من أن يكون أداة في يده يسخرها للترفيه أو الفائدة الشخصية، تحوّل هو نفسه إلى أداة في يد فايسبوك وعوالمه الافتراضية. وحيث أن الزوج سمح لـ «فايسبوك» بأن ينمو نمواً متوحشاً حتى أصبح أكبر من الواقع وتمكّن منه تماماً، فإن الإقلاع الفوري والتعافي الآني باتا أمراً مستحيلاً، تماماً كما في حال المواد المخدّرة.

الحل المقترح من الطبيب هو إقلاع تدريجي مع عملية إحلال وتبديل من دون ضغط أو ترويع. فبدلاً من ساعات طويلة يمضيها الزوج في دهاليز «فايسبوك» وحيداً، فإن وجود أسرته حوله أمر مطلوب ولكن من دون مبالغة. ويبقى مفتاح العلاج في يد الزوج، فلا خروج من نفق معاقرة فايسبوك إلا إذا رغب «المدمن» في ذلك.

وللمشكّكين في صدقية الإدمان العنكبوتي والاعتماد الإلكتروني، ورد في دراسة أجراها راسيل كلايتون (طالب دكتوراه في كلية الصحافة في جامعة ميسوري الأميركية)، أن انفصال بعضهم عن هواتفهم الذكية يولّد لديهم أعراض الانفصال العاطفي بمظاهره الجسدية والعاطفية. وثبت من خلال دراسة مخبرية، أن من يُبعَدون من هواتفهم الذكية يعانون من قلق وتوتر ينعكسان سلباً على طريقة التفكير ودرجة التركيز، والقدرة على اتخاذ أبسط القرارات، والعكس صحيح.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى