معسكران متصارعان: من يربح السيطرة على منطقة الشرق الأوسط؟
عرض: طارق راشد عليان، باحث في العلوم السياسية.
هزت ثوراتُ الربيع العربي ميزانَ القوى في منطقة الشرق الأوسط، لتعيد تشكيل المشهد الاستراتيجي في المنطقة برمتها. فمع بداية الثورات في أواخر عام 2010 وأوائل عام 2011 ظهرت رؤيتين رئيسيتين كانتا حاكمتين للتفاعلات الإقليمية خلال السنوات الثلاث الماضية. وفي محاولة لاستشراف أيٍّ من الرؤيتين ستنتصر، وتسيطر على المنطقة؛ يأتي التحليل الذي كتبه طارق عثمان، الكاتب والمحلل السياسي ومؤلف كتاب “مصر على شفير الهاوية”، بعنوان: “من يفوز بمنطقة الشرق الأوسطWho will win the Middle East ” الذي نشرته مجلة “فورين أفيرز” بموقعها على الإنترنت.
تنافس بين رؤيتين للتغيير
يُقسم عثمان القوى الإقليمية التي تتنافس للسيطرة على المنطقة إلى مجموعتين من البلدان والقوى السياسية التي لها أهداف متضاربة. المجموعة الأولى تقودها قوى إسلامية في إيران وقطر وتركيا وجماعة الإخوان المسلمين في مصر. وتهدف هذه المجموعة إلى توجيه مسار الثورات العربية نحو بناء نموذج إسلامي في المنطقة.
ويختلف تعريفُ هذا النموذج الإسلامي باختلاف الأيديولوجيات والخلفيات المعرفية، والظروف الاجتماعية والسياسية لكل بلد. ومع ذلك، فإن المعتقد الذي يوحد هذه المجموعة يكمُنُ في فكرة أن الإسلام السياسي هو الإطار الوحيد للحكم. ويعتقد أعضاؤه، على عكس الخطاب القديم للقومية العربية العلمانية، أن الإسلامويةIslamism يمكن أن تحظى في الواقع بدعم أوسع من الشرائح الاجتماعية في المنطقة، وتحافظ عليه.
ولتعزيز أهدافها، يستخدم هذا المعسكر شبكة منظمة من وسائل الإعلام، والسلطات الدينية، والمصالح المالية؛ لجذب قطاعات عريضة من الشباب الذي يقل أعمارهم عن 35 عامًا. وتتبنى تلك المجموعةُ التغيير من أسفل إلى أعلى.
أما المعسكرُ الآخر، فتقوده المملكة العربية السعودية، ودول خليجية أخرى مثل الكويت، والإمارات العربية المتحدة، وتدعمه مصر وإسرائيل والأردن، ويرى هذا التحول بمثابة تهديد. وعنهم يقول الكاتب إنهم تقليديون، ويعتقدون أن النموذج الإسلامي سيجر على المنطقة المزيد من التشرذم في بعض البلدان، مثل: العراق، ولبنان، وسوريا، وكذلك الفتنة السياسية والاجتماعية المدمرة للغاية في مناطق أخرى مثل مصر، وتقوية الجماعات الجهادية في مختلف أنحاء المنطقة.
لذا يُفضل هذا المعسكر حدوثَ تطور للنظام القائم يتسم بمزيدٍ من التدرج، والتمكّن، والحذر، ويعتمدون على الجيوش، والأجهزة الأمنية، ووسائل الإعلام، والمصالح المالية، والمؤسسات الرسمية الأخرى، أو المدعومة من الدولة، لفرض رسالة مفادها الحفاظ على الدولة، وحمايتها من الاضطرابات الجارية في المنطقة.
ووفقًا للكاتب، تُعد المعركةُ الدائرةُ بين هاتين المجموعتين نوعًا جديدًا من الحرب في منطقة الشرق الأوسط. فقد كانت الصراعات السابقة بين العلمانيين والإسلاميين (على سبيل المثال، بين عبد الناصر والإخوان المسلمين المصريين في الخمسينيات، أو بين نظام الأسد والإخوان في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات). وفي الوقت ذاته، احتل الصراع العربي الإسرائيلي أهمية رئيسية. ودار التحدي بين الجمهوريات العلمانية العربية ودول الخليج على مدار الستينيات (مثل ذلك التحدي بين مصر عبد الناصر والمملكة العربية السعودية) حول بقاء أنظمة محددة. لكن هذه المواجهة الناشئة تدور بين المعسكرين حول طبيعة ومستقبل المجتمعات في المنطقة، من شمال إفريقيا إلى الخليج.
مأزق في كل اتجاه
يرى الكاتبُ أن هناك أربعة عوامل ستعمل على تحديد الصراع بين هذيْن المعسكريْن، وتتمثل تلك العوامل في:
العامل الأول في مستقبل مصر، خاصةً أنها موطن ثلث السكان العرب بتعداد سكاني يصل إلى ما يقرب من 90 مليون نسمة، وقد ظلت على مدى عقود تحدّد الاتجاه الثقافي في المنطقة. ويرتبط مستقبل مصر بالخروج من الأزمة الاقتصادية التي ستحدد مستقبل البلاد.
وفي هذا الشأن، يقول عثمان إذا طرحت حكومة الرئيس “عبد الفتاح السيسي” الإصلاحات الاقتصادية الضرورية، محافِظةً على الدعم الشعبي الذي تتمتع به، فإن مصر يمكنها استعادة مكانتها كلاعب في المنطقة، بما يعزز من قوة المعسكر الثاني بشكل كبير. ولكن إذا فشلت سيتعرض معسكر التقليديين إلى جولة أخرى من الاضطرابات.
العامل الثاني مستقبل الجزائر التي تُعد أكبر وأغنى دولة في شمال إفريقيا، ويرجع الفضل في جزء كبير من ذلك إلى ثروتها من الغاز والنفط. فيتحدث الكاتبُ عن المشكلات التي تواجه استقرار الجزائر. فعلى الرغم من نجاح النظام الجزائري في مواجهة الاحتجاجات التي نشبت منذ بداية الثورات العربية في عام 2011، فإنها تظل غير محصَّنة تمامًا. إذ يُشير إلى أن تيار الإسلام السياسي الجزائري تجاوز النظرة العدائية التي صاحبته في التسعينيات، ويمكن أن تعود الأحزاب الإسلامية الجزائرية الجديدة للظهور على الساحة كمنافس خطيرٍ للنظام العسكري.
العامل الثالث مستقبلُ المملكة العربية السعودية؛ حيث لا تريد العائلة المالكة تغيير مواقفها وأفكارها. حيث تشهد المملكة ظهور طبقة متوسطة صاعدة لديها حصة كبيرة في الاقتصاد، وبدأت تطالب أخيرًا بالتمثيل السياسي. وفي الوقت ذاته، تتدهور الإمكانات الاقتصادية للمملكة العربية السعودية ببطء؛ حيث يُشير الكاتب إلى الحديث عن أن المملكة ستصبح من البلدان المستوردة للطاقة بحلول عام 2030.
وكتب عثمان أن التراجع الاقتصادي سيعوق العائلة المالكة من الحفاظ على دعم الطبقة المتوسطة. ويمكن أن تضعف سلطة الحكومة أمام تهديدات التمرد الشيعي منخفضة المستوى في الإقليم الشرقي من المملكة، أو تجدد التشدد الشيعي الحوثي على الحدود مع اليمن، أو نشوء حركة احتجاج في أوساط الشباب السعودي الساخط.
ومن شأن ضعف النظام السعودي أن يقوّض معسكر التقليديين من خلال تحويل الموارد، وإخماد إرادة أكبر عضوٍ في هذا المعسكر، وأكثره تأثيرًا.
ويَخْلُصُ عثمان في هذا السياق إلى أن ظهور قيادة سعودية جديدة حازمة، مدعومة بالشرعية السياسية، من شأنه أن يُضفي على معسكر التقليديين زخمًا قويًّا.
العامل الرابع مدى الفوضى التي ستشهدها منطقة الشرق الأوسط خلال العقد المقبل. حيث يرى الكاتب أن من المرجح أن تنتهي الحرب الأهلية في سوريا بظهور سلطة مركزية في دمشق تحيط بها الكيانات السياسية شبه المستقلة. ويمكن للعديد من الجماعات الجهادية السلفية في البلاد أن توطّد أقدامها في السهول الصحراوية التي ينعدم فيها القانون على نحو متزايد، وتمتد من شرق سوريا إلى غرب العراق؛ حيث يمكنهم أن يحاولوا إقامة دويلات إسلامية معزولة عن العالم المحيط (مثلما حاولت جماعات مماثلة في أفغانستان والقوقاز). وسيكون وجودهم مصدرًا للعنف والهشاشة السياسية، وخاصة بالنسبة لسوريا والعراق، فضلا عن لبنان والأردن، مع فتح مزيدٍ من الجبهات في المعركة القائمة بين المعسكرين.
وبحسب التحليل، فإن المعسكر الذي سيتمكن من تحويل الصراعات السياسية في المنطقة لصالحه، من خلال تجنب الفوضى المحتملة، وإلحاق عواقبها بالمعسكر الآخر؛ سيحصل على وضعية أفضل تساعده في كسب هذا الصراع الاستراتيجي.
العاصفة قادمة
يقول طارق عثمان: بينما لا يمكن التنبؤ بما ستكون عليه منطقة الشرق الأوسط على مدى السنوات القليلة المقبلة، إلا أن هناك عددًا من الحقائق اليقينية.
أولا، بعد نمط سياسي ساد العقود الخمسة الماضية، وانتشر على نحو متزايد بسبب التركيبة السكانية والاتجاهات الثقافية الواضحة بالفعل داخل قطاع شبابي كبير في المنطقة؛ تثبت موجة التحضر والتوجه الغربي والليبرالية الزائدة أنها غير قابلة للإيقاف. وهذا سيُضعِف من موقف الإسلاميين، لأن محاولاتهم تطوير خطابهم ورسائلهم السياسية للتوافق مع هذه الاتجاهات سيُقلل من تأييدهم بين دوائرهم الأساسية، وسيفصلهم تدريجيًّا عن الإطار المرجعي الإسلامي الذي تقوم عليه حركتهم بأكملها.
ثانيًا، نظرًا للعيوب الموجودة في نوعية التعليم والتقدم التكنولوجي وتكاليف الطاقة، بالإضافة إلى أزمات المياه التي تلوح في الأفق في نهر النيل ونهر الأردن – ستواجه معظمُ الدول الكبيرة في المنطقة اضطرابات اقتصادية واجتماعية في العقد المقبل. وهذا من شأنه أن يُضعف معسكر التقليديين الذي يعتمد على السلطة الهيكلية، برأي طارق عثمان.
ويُمكن أن يخسر كلا المعسكرين بشكلٍ ما. فالتحديات الاجتماعية والاقتصادية التي سيواجهها المعسكران قد تؤدي إلى اندلاع تمرد شبابي جديد، والذي، على عكس انتفاضات عام 2011، لن يقف في وجه الحُكَّام الحاليين فحسب، وإنما ضد جميع المؤسسات السياسية والاقتصادية التي تتحكم في هذه البلدان أيضًا.
ويرى الكاتب أنه يُمكن لمثل هذه الحركة أن تُضعف بسرعة صلاحيات المؤسسات الراسخة في الجمهوريات العربية القديمة، فضلا عن الممالك الخليجية. كما يُمكن أن تقوض آفاق الإسلام السياسي. وبرغم كل شيء، سيكون التكيف مع المطالب هو الحل بالنسبة للإسلاميين والتقليديين على حد سواء. وسيحظى المعسكرُ الذي يتكيف مع هذه الموجات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بفرص أفضل لتحمّل العاصفة الوشيكة.
تعريف الكاتب: خبير في الشرق الأوسط
مجلة السياسة الدولية (تصدر عن مؤسسة الأهرام المصرية)