معلولا.. ليست الأولى وقميص عثمان ما زال حيَّا (نصري الصايغ)


نصري الصايغ

معلولا ليست الأولى.
لا أحد يتذكر أسماء "القتيل الأول" في الحروب. بعد البداية تتحوّل الأسماء إلى أرقام، تتناقلها وسائل الإعلام، على أنها البديل الموضوعي. نادراً ما ذكرت اسماء. غير أنه ثبت من خلال بدايات الحروب ومساراتها، ان "القتيل" الأول، هو الحقيقة. وبعد اغتيالها، تمّحي من الوجود، وتحلّ "الأغلوطة"، نقيضها التام، وتصير على كل شفة ولسان وإعلام، وبالصوت والصورة والبيان.
ومعلولا، ماذا حلّ بها؟ ولمعلولا أخوة وأخوات من القرى والبلدات والأحياء والمدن والحارات والأسواق.. ماذا حصل في معلولا، حتى غدت سيلاً من "أغاليط"، يدّعي مروّجوها، انها "الحقيقة"؟
تنافس المتحاربون في سوريا، والقوالون السياسيون في لبنان، في الترويج لروايات متناقضة، ولسرديات "موثقة" بشهود عيان (زور أحياناً، صادقون نادراً مضطرون غالباً)، تنقلها تصريحات وبيانات ووكالات وعدسات بث مباشر.
تقول سردية النظام، أن "جبهة النصرة" والتكفيريين، قد ارتكبوا الفظائع، فجروا الحاجز انتحارياً، وتغلغلوا في البلدة التي تجثو بيوتها للسماء عادة، فجثت لأقدام الجزارين.
فريق النظام، يؤكد ويثبت، ومن ينكر سرديته، ممالئ "لجماعة النصرة" ولو كان من الكافرين أساساً.
سردية المعارضة المسلحة والسياسية، ومَن يدور في فلك صوتها إعلامياً وسياسياً، تتبنى حكاية مناقضة: النظام كان بحاجة إلى صرف الأنظار الدولية عمّن "فجّر الكيميائي الأسود"، فاختار تقديم "معلولا المقدسة" شهيدة لاستصراخ الضمير العالمي، عبر إقحام "جبهة النصرة" في البلدة، بعد إقحامها وترويع أهلها وارتكاب المجازر فيها وحرق كنائسها. وقد ذهب البعض إلى اعتبار "جبهة النصرة" كلها، من تأليف النظام وتدريبه، لكونه المسؤول عن مثل هذه التوريدات سابقاً، إلى كل من العراق ولبنان.
لا يلزم تصديق هذا ولا ذاك، ومن المفيد التعامل مع هذه الأحداث، على أنها مادة للتوظيف فقط. فمن مصلحة النظام أن يقدم سردية تخدمه، ومن مصلحة المعارضة ان تقدم سردية مختلفة ومناقضة. والحق، ليس هنا ولا هناك. إنه في مكان آخر، قد لا يؤمه أحد، ولا يكتشفه أحد، فسيل الأغاليط غزير وحبل الكذب بطول عمر البشرية.
معلولا إذاً، ليست الأولى ولن تكون الأخيرة. ورواية استعمال الكيميائي في سوريا ـ الذي لن يُستعمل بعد الآن، كما هو مرجّح، إثر الاتفاق على عزله أو تحييده أو القبض عليه أو تدميره ـ لن تكون ألا رواية في سلسلة.
التاريخ الحديث حافل بفضائح البدايات، وغني بالأكاذيب والسيناريوهات والأحداث التي وضعت رواياتها. في خدمة إعلان حرب أو في إدامتها واستمرارها.
شيء أفظع من معلولا، ومن "الليل الكيميائي السوري الطويل". فقد أقدمت البحرية الأميركية على إصابة مدمّرة تابعة لأسطولها في خليج فيتنامي، واتهمت "عصابات دولة الشمال" بذلك. أدت هذه الأغلوطة الفظة إلى إغراق فيتنام بالمجازر والقصف والتدمير والفوسفور والنابالم، لأكثر من عشرة أعوام.
شيء أفظع من معلولا، تدمير العراق، بذريعة الكيميائي والنووي. شيء أفظع من معلولا، له تاريخ تراجيدي عريق: قميص عثمان. وعند هذا الحد، يتوقف الكلام، خوف التوغل في ما لا تُحمَد عقباه، فتاريخ الفتنة الكبرى، ليس واحداً، والروايات لا تتفق على سردية واحدة. وشبح قميص عثمان يلوح اليوم، في المناطق المأهولة، سنة وشيعة.
حبل الأغاليط طويل ومعلولا ليست الأولى ولن تكون الأخيرة.
في مثل هذا السياق، يلزم اعتبار الكذب والإبداع فيه، سلاحاً ضرورياً لإعلان الحروب ولكسب المعارك. وطبيعة الكذب في الحروب، متأتية من كون الحرب جريمة بشعة، تحتاج إلى مبرر أخلاقي وحجة مبدئية وسردية إنسانية ويقينية إيمانية. يندر القتل من أجل القتل فقط. فهو ضروري لحفظ الكرامة إذا أسيء إليها، لحفظ الحقوق إذا اعتدي عليها، ولدرء الخطر عندما يتعاظم، ودفاعاً عن حرية إذا استُبد بقوم، وعن وعن.. الحرب في الأساس دفاع عن "شيء"، عن "قيمة" عن "مبدأ" عن "مصلحة"، عن "معتقد"، وتأتي الكذبة لتوكيد الافتئات والجرم المسبق، على إعلان الحرب.
كل حرب بحاجة إلى مبرر أخلاقي. ليس فيها. الحرب بحاجة إلى ترسانة أخلاقية ومبدئية. عندما غزت أميركا الفيليبين ـ احتاجت إلى مبدأ، لم توفره لها الظروف، فاخترعت كذبة دينية. الحروب الدينية (صليبية أم جهادية أم…) بحاجة إلى هدف ديني نبيل، بثياب كذبة دنيئة (تحرير بيت المقدس وأشباهه) تبرر القتل لا مفر من الكذب، الكذب هو السلاح الذي يؤمن طمأنينة الجيوش في جبهات القتال، ويؤمن تأييد الشعب لسير المعارك، ويقدم الحرب، بكل بشاعتها، على أنها مقدسة. وسلاحها مقدس، وشهداءها مقدسون، ومبادئها مقدسة، وكتابة سيرتها، بالكذب الذي فيها، على أنها "كتاب مقدس".
والكذب، مفيد في الثورات كثيراً، حتى تلك الثورات المؤيدة بواقع الاستبداد والفساد والطغيان والإذلال، بحاجة إلى كذبة. لعل أجمل الكذبات، تلك ابتدعت قبيل اندلاع "ثورة الياسمين" بلحظات في مدينة سيدي بوزيد. تقول السردية التي عمّمت على الفضائيات كافة، أن الشرطية في المدينة، اعتقلت "عربة" البوعزيزي وصفعته ما شكّل إذلالاً له، فأحرق نفسه.
هذه السردية كاذبة بالكامل. لقد تبين بعد شهور وصدور حكم قضائي بتبرئة الشرطية من صفع وإهانة البوعزيزي، أن قريباً من عائلة البوعزيزي، أرسل رسالة نصية عبر هاتفه الخلوي، إلى عدد غفير من أصدقائه وأقاربه، يكذب فيها عليهم، برواية تقول: "الشرطية صفعت البوعزيزي"، فأحرق نفسه. ثارت سيدي بوزيد مزوّدة برواية كاذبة. أما شريط حرق البوعزيزي لنفسه، فقد تبين أنه ليس شريطاً عن احتراقه وانتحاره.
مَن تصدّق إذاً؟
لا أحد. لا المعارضة في سوريا ولا النظام. مَن هو مع المعارضة، فسيختار حتماً سرديتها وصولاً إلى تبني الخيارات الأميركية والسعودية، ولو كان من اختراع القومية أو رواد اليسار. ومَن هو مع النظام سيتبنى روايته، ورواية المؤامرة، ويُعمي بصره وبصيرته عما جرى لأطفال درعا، ويعتبر أن "القاعدة" و"التكفيريين"، هما الخطر.
بالكذبة، تونس الرافعة،
وللعار في مسلسل الأكاذيب في سوريا.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى