«مع وقف التنفيذ» يغرق في «وحل» الواقع وانسداد الأفق: الدراما السورية ما بعد الحرب..
«مع وقف التنفيذ» يغرق في «وحل» الواقع وانسداد الأفق: الدراما السورية ما بعد الحرب… سوداء قاتمة… هي دراما علي وجيه ويامن حجلي المعتادة: الدنيا سوداء قاتمة، لا خير أبداً. الفاسدون والأشرار هم المجتمع حولنا. لا شخصيات إيجابية. لا نهاية للشر، لأنه الوحيد الذي سيبقى وينتصر. يأتي مسلسل «مع وقف التنفيذ» (كتابة علي وجيه ويامن حجلي ـــ إخراج سيف الدين السبيعي ـــ إنتاج «إيبلا» الدولية) دراما سورية أبوكاليبتية بامتياز. إنها دراما ما بعد الحرب الذي ما فتئ الثنائي الدرامي السوري كتابته منذ «عناية مشددة» (2015). هذا الأمر سرعان ما تحوّل إلى «ثيمة» انتهج طريقها عددٌ من كتّاب الدراما السوريين الجدد أمثال علي الصالح مؤلف مسلسسل «كسر عظم» بعدما احتجب – أو ابتعد- معظم كتّاب الدراما السورية المعروفين كريم حنا، ويم مشهدي، ودلع الرحبي… على الرغم من «السواد القاتم» و«الشر الكبير» الذي يمتاز به عمل الثنائي حجلي ووجيه، إلا أنّ هذا لا ينفي مهارتهما في تصوير «وحل» الواقع أو الكتابة بتقنية Grit التي تصوّر قسوة الواقع كما هي من دون تجميل.
تحكي القصّة التي تسير على خطوط عدة، حكايات خمس شخصيات رئيسية تتداخل ظروفها وقصصها: حليم (غسان مسعود) وفوزان (عباس النوري) وجنان (سلاف فواخرجي) وعزام (يامن حجلي) وعتاب/ درّة (صفاء سلطان). حليم صحافي معارض للنظام، أمضى سنوات معتقلاً في السجون، ما جعل ولديه يكبران بلا ضوابط أخلاقية أو منطقية. أداء غسّان مسعود الهادئ والراقي يجعل الشخصية أقرب إلى المشاهد، فضلاً عن أنّها الأقل «سواداً» و«شراً» مقارنةً بالباقين. إلا أنّ حجلي ووجيه يحاكمان هذا النوع من الصحافيّين، مظهرين فشلهم في حياتهم العائلية التي تتمظهر في علاقة حليم بإبنته رلى. فوزان (عباس النوري) هو الأقرب إلى الشخصية التي يريد المسلسل مظهرتها، وهي مشابهة لشخصية أبو معتصم من مسلسل «عناية مشددة» التي لعبها عباس النوري أيضاً. إنه وصولي، وضيع، قواد مستتر، يزوّج ابنتيه ويطلّقهما من أجل المال. شخصية يفتتن الكاتبان بإظهارها في مسلسلاتهما، وجعلها تقبع بوجه المشاهدين. فوزان لديه ابنتان هما بسمة (ريام كفارنة) وأوصاف (حلا رجب) تشاركانه «عملياته». وعلى الرغم من محاولة المسلسل تقديم «فوزان» على أنه «أرسين لوبين» لكونه «لصاً ظريفاً»، إلا أنّه ليس كذلك البتة: إنه فعلياً يشارك في بيع ابنتيه من أجل المال، كما يستغل طيبة حفيدته كي يعلّمها السرقة من والدها. وهذا ليس ظريفاً البتة، حتى إنه في هذا المشهد يبدو «فوزان» أقرب إلى الشيطان في فيلم «محامي الشيطان» المعروف للنجم آل باتشينو. ذلك أنَّ مهارة النوري كبيرة في تقديم شخصية مخيفة وسمجة إلى هذا الحد. «جنان» بدورها هي نائب في البرلمان، وصولية، خبيثة، ومجرمة. والأغرب من هذا ــ ولعلّها واحدة من سقطات السيناريو الظاهرة ــــ أنها فجأة تظهر طيبة القلب من دون منطق درامي. ففي لحظة ما، تسجن رجلاً وتطلب من «صهيب» أحد الضباط المستزلمين عندها أن يعذّبه حتى يطيعها. لكنها حين تعلم بأن زوجها المسؤول الكبير (يبدع القدير فايز قزق بتأديته) قد قتل صحافياً يلاحق تاريخها غير المشرّف، تبكي وتصرخ بحرقة: «قتلته… قتلته». وللملاحظة فإنّ زوجها يعلّق على هذا الأمر ويسألها: «هل هي الشخص نفسه؟».
عزّام (يامن حجلي) ضابط عسكري مسرّح؛ وشخصيته أشبه بشخصية «مقتص» (vigilante) من الكوميكس، لكنه مكسور ومشوّه. لقد قتل قنّاصٌ ابنه وزوجته أثناء الحرب، ودفن هو بالخطأ ابنه الحي. من هنا، نجد عزّام يريد الانتقام ممن يعتبر أنّهم يؤذون المجتمع، لكنه في الوقت نفسه صديق «صهيب» الضابط المرتشي الذي يرتكب كل أنواع الموبقات. طبعاً همّ عزّام الوحيد هو الوصول إلى «القناص» الذي قتل عائلته. أما الشخصية الأخيرة، فهي «عتاب» (صفاء سلطان) التي يمكن اعتبارها ـــ درامياً ــــ الشخصية الأضعف. إنها فتاةٌ تركت بيت أهلها لتصبح فنانةً معروفة ترغب في العودة لأهلها. كليشيه في قصّة معتادة وإن غابت عنها فكرة الانتقام، فهي لا تريد الانتقام من أهلها، بل العودة لحضنها «الحنون». هنا قد يتوقع المشاهد أنه أمام شخصية «سوية» أو «إيجابية»، إلا أنّها ليست كذلك أبداً.
يمكن اعتبار أداء الممثلين السوريين سمة هذا العمل وقوّته الظاهرة. غسان مسعود يعطي المسلسل دفعاً كبيراً، من خلال شخصية المناضل الذي لم تكسره لا سنوات السجون ولا الأيام ولا حتى جحود أولاده. واللافت في المسلسل أنه جمع مسعود مع فواخرجي بعد سنوات، بعدما كانا قد اجتمعا كحبيبين في مسلسل «ذكريات الزمن القادم» (إخراج هيثم حقي وكتابة ريم حنّا ـــ 2003) الذي سجّل أوّل أدوار فواخرجي القويّة. هنا حليم وجنان عدوان، لكن بدا أن جمعهما معاً في كادر إحدى أهم لحظات المسلسل؛ إذ يلمعان مع بعض كثيراً، وهذا يُحسب للمخرج سيف الدين السبيعي؛ إذ أعطاهما مساحة جيدة، وبدت مهارتهما كبيرة في تصوير التنافس والحب والكره في مشهدٍ واحدٍ متناسق. عبّاس النوري بدوره يقدّم أداء يُحسب له كثيراً هذا العام، ولو أنّه جسّد شخصيةً مشابهة في السابق، إلا أنّ مكياج الشخصية وشكلها أضافا الكثير إليها، فضلاً عن تطويع عينيه بشكلٍ بارز ليتقمّص شريراً درامياً مخيفاً في لحظةٍ ما. سلاف فواخرجي، تُعيد كل مرةٍ خلق نفسها. بعدما أعادت تعريف أدائها في مسلسل «شارع شيكاغو» (كتابة واخراج محمد عبدالعزيز ـــ 2020)، ها هي تكرّر فعلتها هنا: إنها femme fatale قادرة ومخيفة، تمتلك سحر الأنثى التقليدي في آن. صفاء سلطان تجتهد لتقدّم شخصية تحتاج منها وجوهاً وشخصيات عدة: ابنة العائلة، الفقيرة المعذّبة المعدمة، والفنانة القوية والمسيطرة، واللعوب في بعض الأحيان.
وهي إن كسرت الشخصية في بعض المشاهد، إلا أن أداءها في المجمل كان مميزاً. يامن الحجلي من جهته ربما هو الأضعف، إذ يكرر أداءه، ولو أنّه غيّر شكله بعض الشيء، لكن يلزمه بعض التفاصيل التي يجب أن يهتم بها أكثر كنوع الصوت، وتمرين الحركة، خصوصاً أنه يقف أمام ممثلين قديرين. ولأننا نتحدّث عن الأداء، يجب الإشارة إلى ثلاثة أداءات يمكن اعتبارها من اكتشافات هذا العام: فايز قزق الذي أعاد اكتشاف ذاته هذا الموسم، فغيّر شكله، وأضاف إلى شخصيته لهجةً مختلفة، لربما كي لا يصار إلى مقارنتها بالشخصية التي يؤديها في «كسر عظم» هذا العام. غيّر قزق في كل ما يفعله حتى حركته الجسدية، وهذا يمكن اعتباره «سلوك أستاذ» في حرفة الدراما. بدورها، يمكن اعتبار حلا رجب واحدة من نجمات جيلها «الغائبات»، إذ يمكنها بسهولة أن تكون «نجمة» أي عمل، لا شخصية «جانبية». هي تمتلك الكاريزما، والقوة، والشخصية، وفوق كل هذا التوسّع والتعدد، وقد أثبتت هذا الأمر في أكثر من مسلسل. أما الأداء الثالث الكبير والمهم، فهو لصباح الجزائري بدور أم هاشم، وإن كان قصيراً بسبب رحيل الشخصية في الحلقات الأولى من المسلسل.
إخراجياً، حاول سيف الدين السبيعي، أن يضفي الكثير على مسلسله على الرغم من قتامة الجو العام، فلم يخرج العمل «كئيباً»؛ وهذا ليس بالأمر القليل البتة. في المختصر، هذا مسلسل من الأفضل سورياً هذا العام، لكن قد لا يكون ذلك مدعاةً للابتهاج أيضاً، إذ إنّ وضع الأعمال السورية سيءٌ في الموسم الرمضاني الحالي.