مغزى قطع رقبة طه حسين (مهدي بندق)
مهدي بندق
كثيرة هي العبارات التي نرددها ولا نعمل بها، ومثال ذلك القول إن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية! والحق إن اختلاف الرأي غالبا ما يؤدي إلى نزاع فصراع وربما ذهب بالأمور إلى حد الاقتتال، خاصة حين يكون الاختلاف في الرأي متعلقاً بالخطوط الثقافية التي يراد للجماعة الوطنية أن تلزمها ولو قسراً، مع أن أحدا ًلا يستطيع الزعم أنه وحده مالك للحقيقة المطلقة، فالحقائق البشرية جميعها نسبية، وأما القبول بالثقافة السائدة، أو تغييرها فرهن بالتوافق الوطني العام، لكنه التوافق القابل للمراجعة وللتعديل وحتى تعديل التعديل في مراحل تالية.
تلك كانت مقدمة ضرورية، أردتها مُدخلا ً لمناقشة دلالة السطو على تمثال عميد الأدب العربي طه حسين ونزع رأسه من قاعدته. وهو عمل إجرامي لا شك فيه (لا يقلل من خطورته إصدار تعليمات محافظ المنيا بتصميم تمثال نصفى جديد) إنما تذهب دلالته إلى قضية الهوية الثقافية لمصر، وما يستتبعها من استحقاقات اقتصادية وسياسية واجتماعية.
إن قطع الرؤوس المخالفة على مستوى الرمز ليشي بإمكانية قطعها على المستوى الواقعي، تماشياً مع ما يجرى اليوم من محاولات تغيير الهوية المصرية بكل السبل الناعمة والخشنة على السواء، ومع ذلك فلا بد للمثقفين الجادين من أن يواصلوا كشف الحقائق مرات ومرات.
ذلك لأنه رغم المغالطات التاريخية الفادحة فالمدونات العلمية التي استند إليها طه حسين في كتابه الأشهر: مستقبل الثقافة في مصر؛ تؤكد جميعها أن هذه الأرض الطيبة أنتجت ثقافتها الأصيلة فقط في عصر ما قبل الأسرات، حين ترسخت في نفوس المصريين الأوائل قيم التعاون المشترك والسماحة الدينية التي لا غش فيها، والوداعة التلقائية، والفرح البليل بنعمة الحياة، والشكر الصادق للطبيعة علي هباتها، وبالممارسة الواعية لمبدأ القبول الحضاري بالآخر المختلف.
هذا القبول الذي لولاه ما انصهرت في بوتقة واحدة السلالات ُالأولى المولدة من الأحباش والنوبيين والليبيين والمهاجرين الساميين والأرمن، فمن هذه الثقافة البكر بزغت حضارات عظمى (بالمعنى الإنساني للكلمة وليس بالمفهوم التقني المحدود): دير تاسا والبداري في الصعيد، والفيوم في مصر الوسطى، والمعادي وحلوان ومرمدة بني سلامة في الوجه البحريّ. أما ما تلا عصر ما قبل الأسرات هذا، وجراء ظهور الدولة المستبدة المهيمنة فلقد بات على المصريين أن يستهلكوا فحسب ثقافة أولي الأمر فراعنة كانوا أم إغريقا ًأم رومانًا أم عربًا، وما كان لهم أن يعيدوا إنتاج ثقافتهم الأصيلة، بل إبداع ثقافة جديدة بينا هم محكومون غير مخيرين.
ومع ذلك فقد بقيت للثقافة المصرية أصالتها ممثلة في مؤسستها العسكرية طوال العصور لا تنحاز لغير الشعب، ولا تتنازل مطلقاً عن صفتها الوطنية. قارن هذا بما حملته إلينا منذ أعوام وسائل الإعلام من نبأ عجيب مفاده أن تنظيم الصحوة العراقي، والذي كان يحارب متحالفا مع القوات الأميركية بالضد على تنظيم القاعدة، وجه إنذارا ً للأميركان بأنه سينتقل لصفوف القاعدة إن لم تُرفع مرتبات جنوده!
وبالتوازي جأرت أصوات مثقفين عرب كثر ُبالاعتراض علي مطالبة المدعي العام الدولي بمحاكمة البشير أمام المحكمة الجنائية الدولية على ما اقترفته يداه من جرائم القتل والإبادة بحق شعبه السوداني! في نفس الوقت الذي خرجت فيه الجموع الليبية هادرة مهددة الاتحاد السويسري بقطع العلاقات معه، وقطع النفط عنه، عقابا ً لسويسرا التي جرؤت على تطبيق القانون بحق نجل الزعيم الليبي (المقتول) الذي ضرب خادمته!
في الحادث الأخير ربما كان الشعب الليبي معذوراً فهو لم يسمع عن مبدأ المساواة أمام القانون، أما الحادث الثاني فلا عذر فيه للمثقفين العرب، أولئك المتعيشين على هبات الأنظمة السياسية متناغمين مع قيم الصحراء المؤسسة على اقتصاديات الفيء والخراج التاريخية. وأما المثال الأول فيلفتنا (بنموذج المرتزقة الواضح فيه) إلى الميمات الثقافية الموروثة من عصور القبائلية العربية القديمة، نموذج الغساسنة والمناذرة وأضرابهم ممن درجوا على تأجير كتائبهم للدول والإمبراطوريات، بينما كان الجيش المصري ولا يزال يقف سداً دون الأطماع الأجنبية التي تتلمظ على توظيفه كعامل من عوامل إستراتيجيتها.
الإنعتاق الثقافي الذي أطلبه إنما هو دعوة للمصريين أن يبتعثوا قيمهم الأصيلة التي أشرت ُإليها آنفًا، وهو ما لا يمكن أن يحدث ما فتئ المصريون مشدودين إلى سلاسل القيم الصحراوية الوافدة قديما ًوحديثا ً، وإلي بقايا قيود النمط الآسيوي للإنتاج الذي أفرخ دولة الاستبداد المهيمنة حين تأسست في العصر الفرعوني فكرست عند المصريين ثقافة الإذعان والقنوط.
ان واقع الناس لا يتغير بالإلحاح عليهم ليغيروا من أفكارهم، وإنما تتغير أفكارهم بقدر ما تتبدل أنماطهم ونماذجهم المعيشية؛ ولو حدث هذا لتفهمنا مغزى جريمة قطع رقبة تمثال طه حسين، ولاستبدلنا بها تفهّم مشروعه الذي قصد إلى فتح الفضاء البحري أمام مصر لتلتقي ثقافة الحداثة الأوربية حيث المناهج العلمية في التعليم والتصنيع والابتكارات المادية والعقلية دون خشية من دعاوى تحريم أو تكفير، حيث الديمقراطية واحترام حرية التفكير والتعبير والعقيدة، وحيث الناس ثمة يجرءون على وضع كل شيء موضع المسائلة.
وبعد، ألا ترى معي أنه من العجب العجاب أن النظام السياسي في مصر (الذي أسقطته ثورة يناير جزاء وفاقاَ لجرائم صدرت عنه غير منكورة) كان قد استبق خطوات المثقفين أنفسهم في اتجاه البحر، إلى حد قيام الرئيس المخلوع مبارك، بالاشتراك مع رئيس الوزراء الفرنسي بتأسيس اتحاد المتوسط، في إشارة لا تخطئها العين الفاحصة لمحاولة "الإنعتاق" السياسي من الهيمنة الأميركية؟! وإنها لانعطافة إستراتيجية مهمة لو كانت أخذت طريقها إلى التحقق.
فكيف يحجم بعض المثقفين عن تأييد هذه التوجهات بغض النظر عن مصدرها عبر أي نظام سياسي؟ الإجابة: لأن قيم الصحراء لا تزال تشدهم إلى ماضوية ثبت إخفاقها، وإلى الحد الذي أوصلت فيه العرب قاع العالم بقطعهم رقبة طه حسين!
ميدل ايست أونلاين