مـصـــر بـين قــوتـــين (حـســـن زايـــــد)

 

حـســـن زايـــــد

تمخضت الحرب العالمية الثانية، بعد أن وضعت أوزارها، عن نتيجتين غيرتا خريطة العالم فى النصف الثانى من القرن العشرين، هما: تراجع وانحسار وأفول وسقوط دول وإمبراطوريات كانت تتسيد العالم لقرون، وعلى رأسها المملكة المتحدة ـ إنجلترا ـ الإمبراطورية التى كانت لا تغيب عنها الشمس. وبزوغ وتصاعد قوى أخرى لتحل محلها، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتى قطبى العالم فيما بعد. وقد سعت كل من القوتين إلى استقطاب مناطق نفوذ لكل منها بطول خريطة العالم وعرضها، إلى أن وصل التنافس فيما بينهما على الفضاء الخارجى.

وقد تواكب مع ذلك بزوغ فجر ثورة 23 يوليو 1952. وقد كان من بين الأهداف الستة لهذه الثورة بناء جيش وطنى قوى. وبناء الجيش يستلزم بالضرورة توفير السلاح اللازم له، فتوجهت مصر إلى الولايات المتحدة طلبًا للسلاح، إلا أن أمريكا امتنعت عن بيع السلاح لمصر بشروط عبد الناصر. فولى الزعيم الشاب وجهه شطر الشرق معلناً تعاقده على صفقة أسلحة مع الكتلة الشرقية، فأثار النبأ قلقًا عميقًا واضطرابًا شديدًا بواشنطن، إلى حد عدم التصديق رغم توقع المخابرات المركزية لإتمامها، وقد أرسل دالاس وزير الخارجية جورج ألن مساعده لشئون الشرق الأدنى برسالة تحذير لناصر من أن هذه الصفقة قد تسلم مصر للشيوعيين، وقد طيرت وكالات الأنباء الأمريكية أنه يحمل إنذارًا لعبد الناصر.

وقد روى عبد الناصر تفاصيل تلك الزيارة فى خطابه الذى أعلن فيه تأميمه لقناة السويس يوم 26 يوليه 1956، قال ناصر: "وبعد إعلان صفقة الأسلحة أرسلت واشنطن مندوبًا إلى مصر هو مستر ألن، ثم اتصل بى أحد الأمريكيين الرسميين وطلب مقابلة خاصة، فقابلته. وقال لى: إنه متأسف جدًا لما وصلت إليه الحالة بين أمريكا ومصر، وإن مع "ألن" رسالة شديدة من حكومة أمريكا قد تمس القومية المصرية والعزة المصرية، وإنى أطمئنك بهذا الخصوص أنك ستستطيع أن تقضى على أثر هذه الرسالة، وأنا أنصحك أن تقبل هذه الرسالة " ومضى ناصر يقول: " وسألته: رسالة بها إهانة للقومية المصرية. .. ما معنى إهانة العزة المصرية والقومية المصرية؟ . فقال: هذه رسالة من مستر دالاس.. رسالة شديدة اللهجة جدًا، ونحن متعجبون كيف أرسلت هذه الرسالة، ونحن نطلب منك أن تكون هادئ الأعصاب، وأنت طول حياتك هادئ الأعصاب، وتتقبل هذه الرسالة بأعصاب هادئة. فقلت له: كيف أقبل رسالة بها جرح للعزة المصرية؟ . فقال: لن تترتب على هذه الرسالة أية نتائج عملية، وأنا أضمن هذا لك، وستجرح العزة المصرية فى الرسالة وإنما فى العمل لن تجرح العزة المصرية.


قلت له: اسمع.. إذا جاء إلى مندوبكم فى المكتب سأطرده من المكتب". وقد تمت المقابلة بين ناصر وجورج ألن، ولم يطرده ناصر من مكتبه. وقد قال ألن لناصر، إن الولايات المتحدة تعترف بحق مصر فى شراء الأسلحة من أى مكان تختاره، وأوضح أن رفض واشنطن بيع الأسلحة لمصر قد جاء نتيجة رفضها بيع طائرات نفاثة لإسرائيل، حرصًا على ألا يشتد سباق التسلح فى منطقة الشرق الأوسط. فرد عليه ناصر قائلاً: "لقد رفضتم أن تبيعوا أسلحة لى، فرأيت لزامًا على أن أشتريها من حيث استطعت".

وطبعًا كانت خطيئة استراتيجية لواشنطن أن ترفض بيع الأسلحة لمصر لأن موسكو قد اهتبلت الفرصة التى انتظرتها طويلا حتى تتجاوز حدودها المغلقة وصولاً إلى المياه الدافئة.

وبينما كانت العلاقات بين مصر وناصر وواشنطن تتدهور بسرعة كانت الأسلحة السوفيتية تتدفق إلى مصر. وبينا كانت واشنطن تعتقد خطأ أنها تعاقب ناصر بسحب عرضها لتمويل بناء السد العالى، رد ناصر بتأميم شركة قناة السويس، وأسرع السوفيت إلى الاطلاع بمهمة تمويل بناء السد العالى. فجاء الرد على تأميم القناة بالعدوان الثلاثى على مصر، وبينما اكتفت واشنطن باستنكار الغزو مع نفى علمها به على غير الحقيقة، أسرعت موسكو إلى التهديد بإمطار لندن وباريس بوابل من الصواريخ، فتوقف العدوان وانسحبت القوات المهاجمة مرغمة.

ودخلت مصر مرحلة النهضة الشاملة بمساعدة الكتلة الشرقية بما فى ذلك النهضة الصناعية. إلا أن الغرب كما وقف بالمرصاد أمام طموحات محمد على فى بناء مصر الحديثة، وقيدته باتفاقية لندن سنة 1948، فإنه وقف ضد مشروع عبد الناصر وطموحاته المحلية والإقليمية، فكانت هزيمة يونية 1967، التى قوضت أركان أحلام ناصر وجعلته ينكفئ على هدف تحرير الأرض. إلى حد أن أحدهم قد ذهب إلى القول إن ناصر لم يمت فى سبتمبر 1970، وإنما مات فى يونيه 1967.

وقد سنحت الفرصة للأمريكان مرة أخرى بعد أن طرد الرئيس السادات الخبراء الروس عام 1972، وانتصار مصر فى أكتوبر 1973. بعدها أعلن السادات أن 99% من أوراق اللعبة فى الشرق الأوسط فى يد أمريكا. ويممت مصر وجهها شطر أمريكا والغرب، حتى ارتمت فى أحضان واشنطن بالكلية فى عهد الرئيس المخلوع حسنى مبارك، حتى وصل الأمر إلى أن بعض القرارات المصرية كانت تتخذ فى واشنطن.

وبعد ثلاثة عقود تفجرت ينابيع الثورة المصرية فى يناير 2011، حتى أصبحت طوفانًا جرف فى طريقه كل مظاهر الفساد إلى خلفها هذا النظام. وقد اختطفت الثورة من قبل الإخوان بمساندة فاعلة من أمريكا، إيمانًا من الأخيرة بأن الجماعات الإسلامية وفى القلب منها جماعة الإخوان هى خير ضمان لتنفيذ مخطط الشرق الأوسط الكبير.

فلما قام الشعب بثورته فى يونيه فإذا به من حيث لا يقصد يطيح بالمخطط الأمريكى، ويطيح بأحلام تركيا، وقطر، وإسرائيل، وغيرها.

ومن هنا جاءت مواقف هذه الدول مضافًا إليها موقف الاتحاد الأوروبى من الثورة المصرية. وإذا بأمريكا تتخذ نفس الموقف الخاطىء الذى قد يصل إلى حد الخطيئة الاستراتيجية من ثورة يونيه. فأعلنت وقف مناورات النجم الساطع، ووقف المساعدات الأمريكية بما يعنى عدم توريد الأسلحة اللازمة لمصر، فضلا عن الصيانة وقطع الغيار، أى ضرب مكمن القوة الضاربة للشعب المصرى متمثلة فى قواته المسلحة، لدفع مصر إلى الركوع والاستجداء وتقديم فروض الطاعة والولاء وإعادة حلفائهم من الإخوان إلى سدة الحكم كرة أخرى لاستكمال مخطط تقسيم مصر وتفتيتها. وهنا برزت روسيا من جديد لتمد يدها لحليفها القديم مصر، فاعترفت بثورة يونية، وأبدت استعدادها الكامل لمد يد التعاون إلى مصر. وقد ارسلت وزير خارجيتها ووزير دفاعها فى زيارة إلى مصر لبحث أوجه التعاون والتنسيق بين البلدين. ومؤخراً جرى عقد صفقة أسلحة مع روسيا تعيد إلى الأذهان العلاقات الدافئة بين مصر والاتحاد السوفيتى. ونردد مع ناصر : " لقد رفضتم أن تبيعوا أسلحة لى، فرأيت لزاماً على أن أشتريها من حيث استطعت ". وقد تكون المساعدات الروسية أحد العوامل الفاصلة فى الإفلات من القبضة الأمريكية، وكسر الطوق الأمريكى حول مصر حتى تتحلل مصر من الأغلال التى تقيدها وتحول بينها وبين الإنطلاق، وتحول دون استكمال مخطط إفشال الدولة وتقسيمها.

خاصة وأن التحول المصرى إلى التعاون الوثيق مع روسيا والصين والهند باعتبارها قوى صاعدة فى عالم اليوم مع الاستمرار فى علاقة متكافئة مع أمريكا سيضمن لمصر عدم الوقوع فى أسر علاقة أحادية خانقة فى ظل عالم متعدد الأقطاب. وسيعيد مصر إلى مكانتها الإقليمية والدولية من جديد.

صحيفة اليوم السابع المصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى