مفهوم الشخصية بين القصة والرواية
يُعَدُّ مفهوم الشخصية مركزيًّا في السرد الحديث، فقد استُبدل به مفهوم البطل الذي كان مُميِّزا للسرد العتيق. وقد حدث ذلك بفعل تحوّل جذريّ في المعرفي الذي كان وراء نقل الغياب وتمثيله. ولا يتُهِّم – في هذا الصدد – مُراجعة جدواه في ضوء ما يُلاحظ من قصور في تغطية كلّ الأبعاد التي تُكوِّن طبيعة الفاعل (الفرد – الذات – الأنا – الشخصية) في الرواية، بقدر ما يُهمُّ معرفة المُقتضيات المعرفيّة التي تُحتِّمُ استعماله نظرًا وإجراءً في أثناء مُقاربة كلٍّ من فَنَّي الرواية والقصّة القصيرة. والدافع الأساس في توضيح هذا الأمر رفعُ الخلط الذي يطول تشغيل هذا المفهوم في الدراسات الأدبيّة والنقديّة؛ إذ يغلب على استعماله الارتكان المُطمئِنّ إلى مُسلمّات عامّة تكاد تستند إلى حمولة معرفبّة مُوحَّدة، من دون إدراك الفروق الدقيقة التي تُميِّزه كلّما تغير الفنّ السرديّ الذي يُوظَّف فيه، وتغيّرت بنية التمثيل التي يضطلع بالتعبير عنها من فنّ إلى آخر.
من المُؤكَّد أن مفهوم الشخصية في الرواية يتميّز منه في القصّة القصيرة، وإلّا انتفى الداعي إلى مبرّر الحديث عن فنّين مُختلفين؛ والسبب في هذا الاختلاف عائدٌ إلى اختلاف كلٍّ من الرواية والقصّة القصيرة في الطريقة التي يُمثِّلان بها العالم جماليًا على الرغم من استنادهما معا في ذلك إلى هدف واحد هو تمثيل المحدود، وإلى اتّخاذهما معًا الشخصية نقطة إرجاع من أجل ضمان انتظام السيولة السرديّة، وتماسكها بفعل جاذبية الإحالة التي تُوفّرها. فلا يُمكِن تصوّر اطّراد في السرد من دون وجود شخصيات تُسند إليها الأفعال، والصفات، والمقول، والمُفكَّر فيه. فما هي – إذاً – أوجه الاختلاف في تشغيل مفهوم الشخصية في كلٍّ من الرواية والقصّة القصيرة؟
إنّ أوّل ما تُمكِن الإشارة إليه في هذا الصدد، هو أنّ البعد السير – ذاتي (الذي يُحدّد مفهوم الشخصية الروائيّة في كثير من الأحايين، بما يُحيل إليه من تكوّن مُمتدّ في الزمان)، يغيب في القصّة القصيرة بالضرورة، فهي شديدة الصلة بالجاري غير المُتوقّع، وبوضع مُعيّن للشخصية في الحاضر لا يصل إلى درجة البحث عن أصوله في ماضٍ بعيد. وإذا كان من مُميِّزات الشخصية الروائية تجريب نفسها وقدراتها، ووضعُ كينونتها موضع مُساءلة، ومُعاناة تصوّرها (تطلّعها) من نقص يُظهِره عدمُ مناسبة التحقُّقات له، فإنّها في القصّة القصيرة هي على الضدّ من هاته المُميِّزات؛ فهي لا تسعى إلى تجريب ذاتها، لأنّ هدفها لا يُقام على تمحيص تصوّر ما (تطلّع)، وعلى اختبار مدى صلاحيته في ضوء تحقّقات ما، والسبب في هذا الاختلاف ماثلٌ في طبيعة بنية تمثيل غياب المحدود في القصّة القصيرة؛ فهي لا تستهدف المحدود الحدثيّ – الزمنيّ في اتّصاله بالمستقبل الذي هو محكّ التصوّرات (التطلعات) بفعل كونه زمن التحقُّقات، بقدر ما تستهدف المحدود الهوياتيّ، أو المحدود المتعلّق بماهية الكائن الذي يوضع في فسحة التباس مُؤقَّت، أو يوضع في مُواجهة وضع مُلتبس غير مفهوم، ومن ثمة فهي مواجهة بقدرتها على فهم ما يجري، ولا يتلاءم مع نسق ثقافي ما في إدراك العالم. قد تكون هذه الخاصّية الجماليّة التي تُميِّز مفهوم الشخصية في القصّة القصيرة واردةً – بكلّ تأكيد – أيضًا في الرواية، غير أنّ ورودها هذا يتشكَّل من زاوية مُفكّر فيه سابق على الفعل يفحص صلاحيته في ما يسمح به العالم من تحقّقات، كما أنّ التباس هوية الشخصية الروائيّة لا يوضع في لحظة حاضرة مُقلَّصة فحسب، بل أيضًا في مجال زمنيّ أوسع يطبعه توتّر ملحوظ بين الماضي والحاضر؛ ومن المحتّم أن يتوسَّط المستقبلُ هذا التوتّر، ويُشكِّل مدى الحدَّة التي يتّصف بها. إنّ الشخصية في القصّة القصيرة لا توضع من أجل تسريد الفكرة (و/ أو تعدّد الأفكار واختلافها)، كما هو الحال بالنسبة إلى الشخصية الروائيّة، بل توضع من أجل غاية مُختلفة، يُمكِن حصرها في تسريد الانطباع الخاطئ الذي يحدث عرضًا، وكأنّه اختلال ما في سيرورة إدراك العالم؛ وقد يكون هذا الانطباع ماثلًا في تأويل كيان ما، أو حدث ما (كما هو الحال في قصص موباسان)، أو ماثلًا في سوء التقدير تُجاه وضع ما (كما هو الشأن في قصّة «القط الأسود» لإدغار آلان بو)، أو ماثلًا في انكشاف الوهم، بما يُفيده هذا من تصحيح سيرورة ما من التأويل تُجاه عالم وُضع موضع بداهة، ولم يوضع موضع اشتباه، والعكس وارد أيضا (كما هو الحال في بعض قصص هدى حمد). فما يغلب على الشخصية في القصّة القصيرة هو كونها مُوظّفةً من أجل إزالة وهم ما تُسقط القارئ فيه؛ ومن ثمّة يُمكِن عدُّها حاملًا يتأسّس – بالدرجة الأولى – على مُكَوِّنين هما: الذات والموضوع، ومن الصعب أن تُوظّف بغاية تمثيل مُكَوِّني الشخصية والمجتمع، كما الأمر في الرواية، ويتأتّى الطابع التأويليّ للشخصية في القصّة القصيرة من التباس موضوعها أو التباس علاقتها به؛ ومن ثمّة يُعَدُّ العالم بالنسبة إليها سطحًا، أو سرًّا – قناعًا، أو رمزًا (قصّة «المكتبة الدائرية»)، وبهذا تكون الغاية من توظيفها ماثلة في تمزيق السطح الظاهر بغاية الكشف عمّا يقبع خلف من باطن خفيّ. ويُمكِن عدّ الشخصية في القصّة غير مَعْنية بإعادة بناء العالم، وترتيب شتاته، وبالحدود بين ما وقع وما لم يقع كما هو حادثٌ في الرواية، بقدر ما تكون مَعْنية بفعل مُستعجَل، وبحاجة فوريّة للفعل داخل وضعية مُربكة؛ فوضع من هذا القبيل يجعل منها الشخصية القصصيّة في غير حاجة إلى إظهار أيّ عمق نفسيّ أفقيّ مُمتدّ في الزمان، بل ما يُمكِن أن تُظهِره لا يتعدّى حيويةِ داخلٍ نفسيٍّ عموديٍّ يتّخذ هيئة حالة استثنائيّة. وبهذا المعنى تتكفّل الشخصية القصصيّة بميراث أسلافها في الحكاية الشعبيّة، لكنّها تعيد تأسيس هذا الميراث بما يتناسب مع تمثيلها الخاصّ للعالم، والمعرفي الحديث الذي شكّلها؛ فهي لا تُمثّل متعاليًا، أو ذاتًا كليّة (كما الحال في الحكاية الشعبية)، بل تورّطًا في عالم لحظيٍّ لا تعرف كيف تضعه في سياق أكبر من الفهم الكليّ؛ بهذا يكون انطباعها مركزَ الثقل في عملية التمثيل السرديّ، وتوجيه بنيته الجماليّة.
وقد تُعنى القصّة القصيرة بتمثيل فكرة ما فلسفيّة أو ذات طابع تأمّليّ، لكنّها لا تفعل ذلك – كما في الرواية – من داخل صيرورة بناء الشخصية في زمن مُمتدّ، أو من خلال وضع ما تُفكِّرُ فيه موضع جدال، أو اختبار، بل من خلال السماح لفكرة مُستحوِذة على الكاتب بأن تكون مُمثَّلة بوساطة تجسيمها عبر وضع ما يُشكِّل سياقًا توضع فيه الشخصية لكي تكون أداة لتمرير تأويل ما، ويتّخذ هذا التأويل هيئة إرجاعِ شيءٍ ما مُلتبس إلى أصل – فكرة يكون أوّلَه. وكأنّ الأمر يتعلّق بتسمية غير المسمّى، أو إظهار غير المرئي خلف المرئي (قصص بورخيس).
التعدد الصوتي
لا تمتلك الشخصية القصصيّة فضيلة الاضطلاع بمهمّة تشخيص التعدّد الصوتيّ بوصفه تمثيلًا إيديولوجيًّا للعالم يتأسّس على التكافؤ في القدْر بين صوت الكاتب الواقعيّ وصوت الشخصية بوساطة صوت المُؤلِّف المبدع؛ والسبب في هذا عائد إلى افتقار القصّة القصيرة إلى الحيِّز الفنيّ والمدى المُلائِمين لتنمية الصوت، وجعله يرى صلاحيته في ضوء اختلاف الأصوات الأخرى، وبخاصّة منها صوت الكاتب الواقعيّ؛ هذا فضلا عن كون القصّة القصيرة ليست مَعْنية على الإطلاق باختبار صلاحية مُفكَّر فيه مُعيَّن لفعل. إن الضرورة الفنيّة المُميِّزة للشخصية القصصيّة لا تتأسَّس على هذا الاتّصاف الجماليّ، لأنّها مَعْنية أكثر بفهم وجودها داخل وضع مُربِك، أو الانفلات منه، أو فكّ أسراره؛ فغالبا ما تنبثق من عطالة السمت الإدراكيّ المُستضمر تُجاه مظهر مُربِك من العالم. تلتقي القصّة القصيرة – في هذا النطاق – مع الشعر الغنائيّ على المستوى الفكريّ، لا على مستوى التمثيل (نقل الغياب)؛ فهي تحرص على أن تكون رؤية القاصّ إلى العالم ضمانة أساسًا لقول اختلاله.
قد تتعدّد الشخصية في كلٍّ من الرواية والقصّة القصيرة، لكنّ شكل تعدّدها يختلف فيهما معًا. فقد تكون لتعدّد الشخصيات في الرواية صبغة توازٍ في الثقل الوظيفيّ، وصبغة تعاقب في بناء العالم الروائيّ كما هو الأمر في رواية الأجيال (ثلاثية نجيب محفوظ). وقد يُبنى التعدّد على نحوٍ يستلزم فيه التعاقب حضور شخصية ما غياب أخرى، كما هو الحال في رواية «مئة عام من العزلة» لغابرييل غارسيا ماركيز، أو قد يُبنى وفق التناوب بين شخصية محورية وشخصيات كثيرة، كما هو الأمر في رواية «مريم الحكايا» لعلوية صبح، أو وفق جعله حيلة تقنيّة مُتعمَّدة من أجل تغيير زاوية إضاءة الموضوع، وبخاصّة في الرواية التي يتعدَّد فيها السرّاد، كما هو الشأن في رواية «بينما أنا في حالة احتضار As I lay dying» لوليام فولكنر. أمّا بالنسبة إلى القصّة القصيرة فغالبًا ما يُقام فيها السرد على شخصية محورية تستقطب العالم من حولها، وتكون باقي الشخصيات مجرّد خادمة للغاية الوظيفيّة منها. وقد تتعدّد الشخصيات – مع ذلك – في القصّة القصيرة، غير أنّ هذا التعدّد يُقام على تساوٍ في القدر والأهمية، وعلى المُشاركة المُتساوية في الفعل كما هو الشأن بالنسبة إلى قصّة «الصديقان Les deux amis» لغي دو موباسان، وقد يكون هذا التعدّد في هيئة توليف مرحليّ يتضاءل كلّما تقدَّمت القصّة نحو الكشف عن سرّها باقترابها من النهاية، كما يحدث الأمر في المجموعة القصصية «موسيقى سوداء» لوليام فولكنر. ويعود السبب في هذا الاختلاف إلى أنّ الرواية تُمثِّل محدودية الحدث في حالته المُعقَّدة والمُركَّبة؛ ما يسمح بتعدّد واضح في استعمالات الشخصية بغاية ملاءمة بنية الحدث فيها، بينما لا تُمثِّل القصّة القصيرة المحدود إلّا بوصفه ماهية؛ الشيء الذي لا يُتيح إلا إمكان استثمار الشخصية الوحيدة التي توضع موضع التباس، أو تُستخدم من أجل تظهيره، بما يُفضي إليه ذلك من تأويل. وإذا ما ورد التعدّد القائم على المُشاركة المُتساوية فمن أجل بناء تأويل مُتردِّد، أو مُتعارض، أو مُتفاوت.
صحيفة السفير اللبنانية