مقاتل في فلسطين: يوميات بخط جمال عبد الناصر
لم يكن بوسع الضابط الشاب، وهو يصل بقطار عسكري إلى غزة يوم ٣ حزيران/يونيو ١٩٤٨، أن يتوقع، أو يمر بخاطره، أن تجربة الحرب في فلسطين سوف تحكم حياته وتدفعه، بعد توقف معاركها والعودة إلى القاهرة، إلى إعادة بناء تنظيم «الضباط الأحرار» وتشكيل هيئته التأسيسية، التي أطلت على مسارح السياسة الملتهبة يوم ٢٣ تموز/يوليو ١٩٥٢.
كانت حرب فلسطين السبب المباشر الأول للثورة في مصر. هذه حقيقة لا يمكن نفيها في ظل ما سجله رئيس أركان الكتيبة السادسة في دفتر يومياته الشخصية، التي كتبها على مكتب فوقه لمبة غاز أثناء الحرب.
أصدق ما ينسب لرجل ما يكتبه بخط يده تعبيراً عن مشاعره ومكنونات نفسه في لحظة الحدث من دون توقع أنّ أحداً سوف ينظر في ما كتب، ولو بعد عشرات السنين. هكذا بدت المفاجأة كاملة عند نشر يوميات جمال عبد الناصر في حرب فلسطين بخط يده.
على مدى ستين سنة كاملة لم يُتح لأحد من معاونيه ومقربيه وأسرته نفسها أن يدخل في علمه أنه كتب يوميات شخصية أثناء الحرب وأنها في عهدة محمد حسنين هيكل منذ عام ١٩٥٣. احتفظ الأستاذ هيكل بسرّه لخمسة وخمسين سنة حتى أودع لديّ نسخة مصورة من اليوميات عام ٢٠٠٩.
قيمة اليوميات الشخصية لا تضاهى بأية أوراق أخرى منسوبة إلى عبد الناصر بقدر ما تكشف من انطباعات واستنتاجات تدخل في التكوين الإنساني والعسكري للضابط الشاب، الذي لم يكن يعرف مصيره، يعيش أو يستشهد، قبل أن يُقدّر له أن يصبح رجل مصر القوي بعد أربع سنوات.
بخط يده سجل انتقادات على درجة عالية من الحدة والغضب لمستوى الأداء العسكري وجهوزية القوات ومدى تسليحها، فـ«لا يوجد احتياط مطلقاً، من الفصيلة للواء… ولا يوجد أسلاك أو أي تحصينات سوى الحفر».
بعد أقل من شهر على التحاقه بميادين القتال، الثلاثاء ٢٩ حزيران/يونيو، كتب عن وقائع مؤتمر عسكري في مقر كتيبته حضره «الشاذلي»، هكذا كتب اسمه مجرداً من أية رتبة عسكرية رغم أنه من ضمن الهياكل القيادية في حرب فلسطين، ولا أسبغ عليه رتبة مدنية مثل الـ«بك»، كما كانت العادة وقتها عند الحديث عن القيادات الأقدم.
في المؤتمر أهان ذلك القائد العسكري ضباط الكتيبة قائلاً: «أي ضابط في المدفعية أحسن من بتوع المشاة».
كتب: «كان في منتهى الوقاحة»، «وقد جرّ عليه ذلك ثورة من الجميع وصلت إلى أن نعمة الله بك رد عليه بالقول: إنّ عساكر وضباط المشاة بيهاجموا على المواقع اليهودية بالقميص، وبدون أي أسلحة مدرعة، الأمر الذي لم تسمع عنه».
من هو؟… ومن أية زاوية نظر إلى عواصف النار حوله؟
كتب معترضاً على أمر انسحاب من الخليل تلقاه يوم الخميس ٢١ تشرين الأول/أكتوبر:
«إنّ انسحابنا سيعرض جميع السكان في عراق سويدان وبيت جبرين إلى التشريد، أو الوقوع في قبضة اليهود… تصورت منظر الأطفال والنساء والعائلات عند انسحابنا… وكيف سيحتل اليهود عراق المنشية والفالوجة… وكيف إذا استمرت الحرب سنحاول استعادة هذه البلاد التي حصنّاها… عراق المنشية مثلاً التي وقفت أمام دبابات العدو وجموعه… كل ذلك سيستولي عليه اليهود… وسيكون من العسير… بل من المحال استرجاعها».
«قيادة عاجزة وهزيلة».
عبارات مماثلة تكررت بأكثر من موضع.
«أخطرناهم أن الطريق إلى بيت جبرين محتل بالعدو… ولا توجد ذخيرة منذ عشرة أيام… ولكن رغم ذلك يتجاهلون ويصدرون أوامر… هذه القيادة الهزيلة هي التي تسببت في كل هذه المصائب… والحقيقة أنه لا توجد قيادة للجيش المصري في فلسطين… نفس التقاليد العتيقة… ونفس المظاهر والتمثيل بدون إنتاج… لقد كوّن اليهود جيشاً به دبابات وقوة دافعة في أربعة أشهر… واستطاعوا أن يقطعوا أوصال الجيش المصري… ويعزلوه في جيوب متفرقة… ويقطعوا خطوط مواصلاته في عملية استغرقت ثلاثة أيام».
«أما قياداتنا فعاجزة كل العجز… لا يوجد عسكري واحد احتياطي ليستعيدوا به الموقف… ففكروا في كل شيء، وهو الهرب والنجاة بأنفسهم… كان (أحمد) المواوي (قائد الحملة) عاجزاً… فإنه قائد بدون جنود، وبدون جيش… اللواء الثاني منعزل في أسدود… واللواء الرابع منعزل في النقب… واللواء الجديد في مصر منذ خمسة أشهر لم يكمل تدريبه… أما اليهود فقد كونوا سلاح طيران سيطر على الجو طوال مدة العمليات».
وصل غضبه إلى مداه يوم ٢٨ تشرين الأول/أكتوبر ١٩٤٨:
«قادتنا المنافقون يصدرون بلاغات كاذبة. بعدما استولى اليهود على بئر سبع فعلاً رغم تكذيب (محمود فهمي) النقراشي (رئيس الحكومة)… وبالرغم من طلبنا تعيينات وذخيرة بواسطة الطيران… وبالرغم من أن طلباتنا لم تجب… ولم يلتفت إليها… فسنقاوم إلى آخر رجل… لقد فقدنا الإيمان في قيادة الجيش… وقيادة البلاد… هؤلاء المضللون الممثلون… ماذا عملوا بعد أن دخلنا الحرب… لا شيء… لم تصل أي إمدادات للأسلحة التي دخلنا بها».
هذه اليومية، بتوقيتها ومشاعر غضبها، تكاد تؤرخ للبداية الحقيقية للثورة في قلب رجل، كأنها نقطة تنوير مبكرة في نص روائي طويل.
كانت أولى يومياته الشخصية غامضة وشفرتها يصعب فكها.
سجل يوم ٣ حزيران/يونيو ١٩٤٨ أنه عرف فور وصوله إلى غزة أنّ محمود بك لبيب موجود في معسكر المتطوعين. ذهب إلى المعسكر ليلتقيه، لم يجده، وفي الطريق قابله مع الشيخ محمد فرغلي حيث اتفقوا أن يصلّوا الجمعة سوياً باليوم التالي. رغم غموض طبيعة العلاقة، التي لم يشر إليها من قريب أو بعيد، لا بالتصريح ولا بالإيحاء، فإن القصة المقتضبة بكلماتها وحروفها تكتسب قيمتها التاريخية من أن الرجلين من قيادات جماعة «الإخوان المسلمين».
الأول، أبرز قادتها العسكريين وأكثرهم نفوذاً وتأثيراً داخل الجماعة. والثاني، عضو مكتب الإرشاد وخازن سلاحها.
قبل الموعد المضروب للحديث، ربما، عن أحوال المتطوعين وأوضاع القتال جرى تكليف عبدالناصر بمهمة استكشاف في دير سنيد والمجدل وأسدود حيث قابل في المحطة الأخيرة عبدالحكيم عامر.
حتى نهاية اليوميات مطلع ١٩٤٩، لم يأت على ذكر محمود لبيب والشيخ فرغلي مرة أخرى. يسهل استنتاج أن هناك صلة سابقة مع الضابط المتقاعد محمود لبيب، وبدرجة أقل مع الشيخ محمد فرغلي.
لبيب مات قبل ثورة يوليو… وفرغلي من الذين ناهضوا داخل مكتب الإرشاد التعاون مع «يوليو»، أو حل الجهاز الخاص، واتهم بالضلوع في محاولة اغتيال عبدالناصر عام ١٩٥٤ وحكم عليه بالإعدام.
كان الصدام مروعاً. السؤال، هنا: ما حجم ودور «الجماعة» في حرب فلسطين؟ كانت أعداد متطوعيها، حسب التقديرات الرسمية، في حدود ١٢٣ رجلاً عملوا تحت قيادة الحاج أمين الحسيني، مفتي فلسطين، وتمركز نشاطهم في منطقة غزة، حيث قابل عبدالناصر القيادتين الإخوانيتين.
تولى مسؤولية هؤلاء المتطوعين محمود الشريف، شقيق كامل الشريف، وكلاهما حصل في ما بعد على الجنسية الأردنية. لا يوجد إحصاء آخر لأية أعداد قد تكون التحقت بهم بعد بدء الحرب، ولا جرت دراسة مدققة في التكوين الرئيسي للمتطوعين المصريين باختلاف توجهاتهم من عسكريين ومدنيين.
بأية قراءة في ما هو منشور ومتوافر من وثائق وبرقيات الحرب فإن ما قامت به «الجماعة» لا يقارن على أي وجه بما قام به المتطوعون تحت قيادة البكباشي أحمد عبدالعزيز. وقد كان حزن اليوزباشي جمال عبدالناصر، الذي ترقى لرتبة الصاغ يوم الأربعاء ٢٨ تموز/يوليو، عميقاً على استشهاد البطل أحمد عبدالعزيز.
«علمت اليوم، ٢٣ آب/أغسطس، خبراً لم أصدقه لأول وهلة، إنّ أحمد عبد العزيز قتل أمس عند عودته من بيت لحم… وتفصيل الأمر أن أحمد عبدالعزيز وصلاح سالم والورداني عادوا بعد مؤتمر العرب واليهود بالقدس لمقابلة المواوي… وعندما اقتربوا من عراق المنشية حوالى الساعة ٢٠:٠٠ فتحت عليهم نيران من المواقع المصرية… فكان أحمد عبدالعزيز هو الضحية. لقواتنا بعض العذر، فإنّ اليهود يخرقون الهدنة يومياً في هذا المكان… محاولين العبور إلى المستعمرات الجنوبية… قد تألمت جداً فإن أحمد عبدالعزيز كان يحب أبناءه… وكان في عز مجده الذي لم يجاز عليه، ولم يره الشعب ولم يستقبله. مات أحمد عبدالعزيز وكله أمل في الحياة. لقد تألمت جداً… لهذه الآمال التي انهارت».
كان ذلك البطل الذي رحل في ميادين القتال هو الملهم الحقيقي لمعاني التضحية وسط الضباط الشبان وأثره يتعدى أي قائد عسكري آخر من رتب أعلى مثل الفريق عزيز المصري، الذي نسبت إليه أبوة «الضباط الأحرار».
تحت اختبار النار اقتنع جمال عبدالناصر بصحة ما ذهب إليه أحمد عبدالعزيز من أن التغيير يبدأ من القاهرة.
يلفت الانتباه في يومياته أن أعداداً كبيرة من الضباط والجنود الأقباط شاركوا في الحرب ودفعوا فواتير الدم. من هذه الأسماء الضابط كمال بشارة، وقد شارك عبدالناصر تجربة الحياة والموت والنوم فوق بطانية واحدة والتغطي بأخرى، الثقة فيه بلا حد والإعجاب بنسقه الأخلاقي والعسكري مسجل بخط يده حين وبخ من تورطوا في التمثيل بجثث القتلى اليهود في منطقة المحجز يوم السبت ٢ تشرين الأول/أكتوبر.
لا توجد معلومات عن بشارة، أو ما إذا كان عبدالناصر قد فاتحه في الانضمام لـ«الضباط الأحرار». وقد كان خلو التنظيم من أية شخصية تنتمي إلى الديانة المسيحية مادة اتهام طاردت التنظيم كله. لم يكن ذلك صحيحاً على أي وجه ومن أي زاوية في نظر قائد «الضباط الأحرار» إلى الحرب وأبطالها وضحاياها.
في اليوميات لا تخفى إشارات مبطنة عن اتصالات ما وخطابات ترسل إلى القاهرة في ما بين أعضاء التنظيم. تكررت على نحو لافت أسماء قدر لها أن تلعب أدواراً محورية في المستقبل كزكريا محيي الدين، وخالد محيي الدين، وصلاح سالم، وثروت عكاشة، وحمدي عاشور، وحسن إبراهيم، وحسن التهامي، ولطفي واكد.
كان الاسم الأكثر تكراراً عبدالحكيم عامر، أو «حكيم» كما كان يكتب اسمه، بصورة تبدت فيها صداقة شخصية وعائلية عميقة.
لم يكن عبدالناصر وحده من كتب يومياته أثناء حرب فلسطين. عادة التدوين شملت ضباطاً آخرين من جيله، بينهم زكريا محيي الدين، الذي لم يتسن نشر يومياته وما زالت مودعة في أرشيف عائلي بين أكوام ورق تعود لفترة تأسيسه عام ١٩٥٣ للمخابرات العامة المصرية.
غاب تماماً أي ذكر، من قريب أو بعيد، للواء محمد نجيب، رغم أنّ الأخير ذكر في شهادة منشورة أنه تعرف أثناء حرب فلسطين على جمال عبد الناصر، وكمال الدين حسين، عن طريق عبد الحكيم عامر.
بغض النظر عن أية تقديرات سياسية للرجال والأدوار، مما يحسب لنجيب تحمله مسؤولية الموقف الصعب، الذي كان ممكنا أن يدفع ثمنه حياته مع عبد الناصر ورفاقه. لم يكن قائد الحدث الكبير لكن وجوده على رأسه ساعد بقسط وافر في نجاحه.
بتحفظ واقتضاب، أشار عبد الناصر يوم الثلاثاء ٦ تموز/يوليو إلى لقاء أول وأخير جمعه بالملك فاروق. «حضر صاحب الجلالة الملك للمرور على المواقع ووصل إلى أقصى المواقع الأمامية». لم يزد حرفاً واحداً.
تحت وهج النيران على الخط الفاصل بين الحياة والموت كاد أكثر من مرة أن يستشهد.
«كان الرصاص يمر فوق رؤوسنا… حاولنا معرفة مواقع العدو ولكنها كانت مختفية فاستترنا خلف إحدى الحمالات…».
«لاحظت أن هناك دماً يتساقط على القميص… فسألت الجاويش عبدالحكيم، الذي أخبرني أن هناك جرحاً بسيطاً في ذقني…»
«ثم قمت للعودة… فقام العدو بإطلاق نيران شديدة على الحمالة فشعرت أني أصبت في الصدر من الجهة اليسرى… ونظرت فوجدت أن الدماء تبلل القميص حول الجيب الشمال وأن القميص به خرم متسع… وكان محل الإصابة يظهر في منتهى الخطورة.. فوق القلب».
أخبره الطبيب بأنّها شظية وليست رصاصة، وجرى نقله إلى مستشفى المجدل.
«في غرفة العمليات وُجدت شظيتان بالجرح».
«ارتفعت روحي المعنوية وحمدت الله فأول ما خطر على بالي عند الإصابة كان الأولاد وأمهم… والحقيقة إنه عندما عرفت محل الإصابة… فقدت الأمل في النجاة ولكن الله كريم». هكذا كتب يوم الاثنين ١٢ تموز/يوليو ١٩٤٨.
ثم عاد يوم الأحد ١٢ أيلول/سبتمبر ليروي قصة أخرى أطل فيها الموت على المكان.
«الحمد لله… دخلت في حقل ألغام بنوع من الخطأ… وخرجنا بعون الله… وفي العودة اصطدمت بعربة من ك١… ولكن الله سلم».
لم يدع أي شجاعة وقابل قدره برضا وسرى في يومياته إيمان عميق بأن هناك ما يستحق الموت من أجله.
الحرب اختبار رجال أمام الموت المحتمل في أية لحظة واختبار للمعاني التي يقاتلون من أجلها.
كانت المفاوضات التي دخلتها القوات المصرية المحاصرة مع القوات اليهودية، كما كان يُطلق عليها في أدبيات ذلك الوقت، من أهم المحطات التي تعرض لها وعكست طبيعة نظرته للعدو الذي يقاتله.
كتب بخط يده يوم الأحد ٣١ تشرين الأول/أكتوبر.
«القائد اليهودي يحضر في عربة عليها علم أبيض… ذهبت لمقابلته… يطلب منا التسليم… نرفض… يطلب أخذ جثث قتلاه».
في اليوم التالي كتب: «جمع جثث قتلى اليهود حسب الاتفاق». «العدو ينقض اتفاقية إيقاف القتال بعد استلام جثث القتلى بساعة».
في الأربعاء ٣ تشرين الثاني/نوفمبر كتب بالحرف: «نقاتل… ولا نستسلم». بعد ثماني سنوات استعاد نص هذه الجملة بحروفها ومشاعرها من فوق منبر الأزهر الشريف حين أعلن مقاومة العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦.
في الأربعاء التالي، ١٠ تشرين الثاني/نوفمبر، كتب:
«حضرت الساعة ١٥:٠٠ مصفحة يهودية من الشرق، عليها علم أبيض… طلب الضابط الموجود في العربة أن يحدد ميعاداً ليتقابل فيه قائد الفرقة اليهودية مع قائد قواتنا»، الأميرالاي السيد طه، الذي اشتهر بـ«الضبع الأسود».
بعد يوم واحد: «تقابلت مع الضابط اليهودي الساعة ١٠:٠٠… وبلغته أن القائد وافق على مقابلة القائد الصهيوني بين الساعة ١٥:٠٠ والساعة ١٦:٠٠… فقال إنه يأسف لعدم اتفاقنا على المكان… وإن هذا المكان بين الخطوط… في الشمس غير مناسب… إذ إنّ قائده يرغب في أن نتناول فنجاناً من الشاي سوياً… وهو يخيرنا بين جات وبيت جبرين… اتفقنا على الاجتماع في جات… وسيقابلنا منتصف الطريق الساعة ١٥:١٥… توجهنا السيد علي طه، ورزق الله الفسخاني، وجمال عبدالناصر، وإبراهيم بغدادي، وخليل إبراهيم إلى الجات. قوبلنا مقابلة حسنة… وكان الفرق شاسع بين جات وعراق المنشية… فإن الشخص يشعر بأنه بين قوم متمدنين… الآلات الزراعية الميكانيكية والنظافة والنساء في ملابس زاهية يلبسن الشورت… واجتمعنا مع اليهود… تكلم القائد اليهودي… وقال: إنه يرغب أن يمنع سفك الدماء… وأن موقفنا ميؤوس منه… وطلب أن نسلم… فاعترض القائد المصري وطلب الانسحاب إلى غزة أو رفح… فمانع اليهود… وقالوا إنهم يوافقون على شرط أن يخرج الجيش المصري من كل فلسطين… وطلبنا إجلاء الجرحى إلى غزة… لكنهم رفضوا ذلك… قالوا إنهم مستعدون أن يعطونا ما نرغب من أدوية… وأخيراً خرجنا… وقد قدموا لنا عصير برتقال، وبرتقالا، وسندوتشا، وشكولاتة، وملبس وبيتي فور وبسكويت… أبلغتنا الرياسة أن قافلة ستحضر…
كلمة السر حسان… وأن جلالة الملك أرسل تلغراف يشكر فيه الجميع، ويشجعهم… وقد رقي السيد طه إلى أميرالاي مع رتبة البكوية».
هكذا سجل وقائع التفاوض التي جرت في مستعمرة جات تحت إشراف هيئة مراقبي الأمم المتحدة، وكان الطرف اليهودي يقوده البريجادير ييجال أللون، قائد الجبهة الجنوبية، رئيس الأركان الإسرائيلي ونائب رئيس الوزراء في ما بعد.
لم تمنع الحرب وأجواء التحدي حتى الموت الضابط الغاضب من أن ينظر في ما يتمتع به عدوه من عوامل قوة والتحاق بالعصر في أسلوب حياته.
في اليوم التالي، ١٢ تشرين الثاني/نوفمبر، اشتدّ الضرب على القوات المصرية المحاصرة.
«عرضت القيادة الانسحاب ولو بتكسير السلاح… كان الرأي أن ذلك مستحيلاً فإن العدو من جهة الشرق يتحكم في كل الطرق».
بعد يوم واحد، السبت ١٣ تشرين الثاني/نوفمبر: «كان من المنتظر وصول الصليب الأحمر، لكنه لم يصل… علمنا في المساء أن اليهود منعوه من المرور عند التقاطعات وضربوا أعضاءه».
بعد يوم آخر: «وصلت الساعة ١١:٠٠ عربة عليها بيرق أبيض… وبلغنا الضابط اليهودي أنه مستعد لإعطائنا أدوية… وأخذ الجرحى إلى مستشفياتهم على أن يكونوا أسرى حرب… وافق القائد على أخذ الأدوية… ولكنه قال: إنه مصمم على إخلاء الجرحى بواسطة الصليب الأحمر إلى خطوطنا… واتفقنا على أن نتصل الساعة ١٩:٠٠ باللاسلكي مع اليهود لأخذ الرد بعد أن استلموا كشف الأدوية… المطر مستمر… وقد تقابلت مع القائد اليهودي تحت المطر… وتكلمنا في مواضيع عامة… فقال إنه يرجو أن لا نكون متعبين في المطر… سأل.. هل بمصر الآن مطر بهذا الشكل…؟ وقال: إنه يرجو أن يسود السلام… وأن نرجع آمنين سالمين… وتكلم، فقال: إن بريطانيا هي التي زجت بنا لتحقيق أغراضها… وإنهم قد تمكنوا من طرد الإنجليز من فلسطين… ويرجون أن نطردهم كذلك… وأن نتعاون سوياً… ما زال الضرب كالعادة… عدو لا يحفظ العهد».
في رواية نشرها الكاتب الصحافي محمد عودة، نقلاً عن شهادات إسرائيلية، فإنّ الضابط اليهودي يورهان كوهين، قال للصاغ جمال عبد الناصر: «أريد الحديث معك كرجل عسكري. هذا موقعكم وهذه قواتنا وقوة نيراننا، فهل ترى أن لكم مخرجاً غير التسليم وسوف تخرجون بأسلحتكم وكرامتكم مكفولة». رد الصاغ المصري: «كعسكري أوافقك ولكن كمصري ليس التسليم على أجندتنا».
قرب نهاية الحرب، ورد تعبير «إسرائيل المزعومة» يوم الثلاثاء ٢١ كانون الأول/ديسمبر للمرة الأولى في يوميات جمال عبد الناصر.
صحيفة الأخبار اللبنانية