“مقبرة الكتب” مغارة الحكايات والأسرار

 

كارلوس زافون، التربادور الإسباني الذي روض ثيران توحش الإنسان وشروره بإحياء مجد الكتب في عصر الهواتف الذكية وسطوة التكنولوجيا برائعته الخالدة “مقبرة الكتب المنسية”. هو من مواليد برشلونة سنة 1964، درس تكنولوجيا المعلومات غير أن شغفه الكبير كان السينما وقد كتب الكثير من سيناريوهات الأفلام، غير أنه اشتهر كروائي وبدايته الفعلية كانت مع أدب الناشئة وروايته الأولي “أمير الضباب” سنة 1993 والتي مكنته من الفوز بجائزة : Edébe المخصصة لأدب الناشئة، تلتها “قصر منتصف الليل” سنة 1994، “أضواء من سبتمبر” سنة 1995 “مارينا” سنة 1999 وفي بداية الألفية الثانية وبالضبط سنة 2001  صدر “ظل الريح” وهي أول الأجزاء من سلسلة “مقبرة الكتب المنسية” والتي ترجمت إلى أكثر من أربعين لغة، وبيعت منها ملايين النسخ في أنحاء العالم، ففي المملكة المتحدة وحدها بيعت مليون نسخة ثم تلتها الأجزاء الأخري “لعبة الملاك، سجين السماء، ومتاهة الأرواح”. توفي في التاسع عشر من يونيو/حزيران الماضي بعد صراع طويل مع مرض  السرطان، وتركت وفاته المفاجئة معالم الأسي والذهول عند كثير من محيبه في العالم وقرائه. الموت كان سابقاً ولم يمنحه الوقت الكافي ليتحف عشاقه بروائع تفوق هذه الرباعية.

السر الدفين 

“ظل الريح” روايةْ ثقيلة من حيث عدد الصفحات التي تتجاوز الخمسة مئة وأيضا من حيث الحمولة المعرفية، ذات بنية ملغزة أو كما وصفها مقال لوفيڤارو الفرنسية “بأنها مُغوية كما دمية الماتريوشكا الروسية التي كلما فتحت وجد المزيد من الدمي المتشابهة، توقد لهيب الشغف بدواخل كل من تقع بين يديه وتجعله يدمنها ويسارع في قراءتها.

من الصفحات الأولي يلقي زافون ببراعة متناهية صنارة وهذا بزيارة الفتي “دانيال” ووالده السيد “سيمبيري” وهو صاحب مكتبة في إحدى الأحياء البرشلونية لمكان يسمي “مقبرة الكتب المنسية” والتي تقع في أقاصي مدينة برشلونة. استقبلهم حارسها “إسحاق” وهي مساحة شاسعة تحوي عدداٌ هائلاُ من الكتب التي انتهت طبعاتها أو تلك المهملة والناجية من الحروب والحوادث، قد يبدو المكان خالياً من أي اثر بشري لكن مع التوغل فيها يظهر عدد من باعة الكتب والمكتبيين وهم القيمون أو الأمناء علي الكتب كما يشرح السيد “سيمبيري” لابنه. وبعد جولة تأملية لطفل في رحاب المكان طلب منه والده ان يختار كتابا يقرؤه بحب مع الاعتناء به والمحافظة عليه شرط أن لا يفشي السر لأي كان: “هذا المكان سرْ يا دانيال، إنه معبد، حرم خفي. كل كتاب، كل مجلد، تعيش فيه روحْ. روح من ألفه وأرواح من قرؤوه، وأرواح من عاشوا وحلموا بفضله، وفي كل مرة يغيرُ الكتاب صاحبه او تستحوذ نظرات جديدة صفحاته، تستحوذ الروح على قوة إضافية. (الصفحة 16).

تناسل الحكايات من وراء كتاب

إثر عودته من المقبرة سهر “دانيال” مع صديقه الجديد الذي اختاره أن يكون رفيق دربه، وكان عنوانه “ظل الريح” لكاتب يدعي خوليان كاركاس. لم يكتف الفتي بقراءة الكتاب بنهم وإنما راح يسأل عن صاحبه وحيثيات تواجد الكتاب بالمقبرة، رغم أن الكاتب يبدو في ريعان الشباب، وكانت البداية من السيد “غوستابو برسلو” أكبر مكتبي في برشلونة والذي عرض عليه أن يبيعه الكتاب، لكن دانيال رفض رفضا قاطعا، وليضيء له عوالم خوليان كاركاس عرفه بقريبته “كلارا” التي تعتبر من قراء كاركاس الأوفياء، والذي صادفتها روايته حين كانت تلميذة في فرنسا بفضل أستاذها الذي كان السبب في اكتشافها لهذا الكاتب الإسباني المغمور ابن بائع القبعات السيد “فورتوني نتور” والسيدة صوفي معلمة البيانو.”خوليان الذي كانت بداياته من باريس كعازف بيانو في مبغى ليلاُ، وكاتب في النهار، اختفي ليلة زفافه بعد منازلة بالسيوف مع غريم له وعاد إلى برشلونة حيث قتل وشاع أن أغلب كتبه اختفت من المكتبات ودور النشر لأسباب مجهولة، لكن معلومات “كلارا برسلو” لم تروِ شغفه بصاحب هذه الرواية الاستثناء إللا حين ظهور السيد “فرمين” في هيئة متسول بسبب مطاردات البوليس له والذي استقبلته عائلة “سيمبيري” وصار فردًا منها وصديق “دانيال” الحميم الذي سوف يشق معه طريق البحث عن كل تفصيل يخص “خوليان كاركاس”.

يتحولان إلى مخبرين، فيدخلان متاهات متشابكة ويقتحمان حيوات أشخاص غادروا الحياة باستدعاء آخرين كانوا شهودا عليهم مع مطاردات رجل الأمن “فوميرو خافيير” الذي لم يدعهم بسلام فأراهم الويلات والأهوال. “فوميرو” الذي تبين في النهاية أنه كان زميل “كاركاس” في طفولته والمددج عليه بالأحقاد لأنه سرق منه الفتاة التي أحبها “بينولب” فعمل المستحيل لكي يدمر “خوليان كاكاس” ويمحوه من الوجود: “شعرت أنني مطوق بملايين الصفحات وآلاف الأرواح، والأكوان الهائمة تتساقط في لجة هاوية سحيقة لا قرار لها، بينما يسهو الجنس البشري في الخارج مغرورا بحكمته وهو يتأرجح علي شفا حفرة بين النسيان والعدم”. (الصفحة90).

مقبرة الكتب ذاكرة مدينة وتاريخها

لا أدري لماذا شدتني هذه الرواية الطويلة جداٌ في عصر تعودنا علي السريع والنذر القليل من الصفحات، ربما لأنني منذ الصفحة الأولي وقعت أسيرة الدهشة حيال المكان الساحر والذي أعادني إلى كتب التراث القديم وقصص “ألف ليلة وليلة” أو ربما لأن الشخصيات جميعها بدت لي حقيقية ورسخت في ذاكرتي دون اللجوء إلى رؤوس أقلام على دفتري كما أفعل مع جميع الكتب التي تقع بين يدي.

“ظل الريح” تجعل من قارئها فارسا مقداماُ متسلحا بشغفه وبلهيب الرغبة في معرفة المزيد وأدق التفاصيل. ومقبرة الكتب سر كل الحكايات، المستأمنة على تاريخ مدينة والحامية لوجودها من الاندثار والنسيان في هذه الحقبة المتوحشة التي تُمحي فيها كل معالم الأصالة والفكر والمعرفة، لذا لا أستغرب عندما سمعت عن تلك الطوابير الطويلة في إيطاليا ذات عام وهي تنتظر دورها لاقتناء هذه الرواية التي أسقطت ادعاء الأصوات النشاز أن عصر الرواية انتهي وما يكتب الآن ليس إلا صنوفا من التفاهة والعبث.

أعتقد أن الخسارة الكبيرة ليست برحيلنا نحن البشر العاديين عن هذه الحياة البائسة والتي تزداد بؤسا وإنما الخسارات الفادحة أن يغادرنا من يعملون علي زرع بذور الجمال والشغف بداخلنا ككارلوس زافون الذي رحل باكراُ وأخمد جذوة انتظارنا لروائع تفوق جمال “مقبرة الكتب” التي أحيت مجد برشلونة وخلدته بجميع أمكنتها (مكتبات، قصوراُ وكنائس، شوارع) إنها مسح طوبوغرافي فني لمعمار برشلونة المدينة الضاربة جذورها في التاريخ والتي يتعامي العالم عن سحرها وقيمتها وحصره في مجرد فريق كرة قدم.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى