مكاسب الأسد: تأثير التغيرات الإقليمية في موازين الصراع في سوريا (صافيناز محمد أحمد)
صافيناز محمد أحمد
مر ميزان القوى في الصراع السوري المسلح بين النظام والمعارضة في تطوره بمراحل عدة، ارتبط بعضها بمصالح القوى الإقليمية والدولية المعنية بالصراع ، وارتبط البعض الآخر بمتغيرات العلاقة بين تلك الدول منذ اندلاع الأزمة وحتى الآن، وارتبط البعض الثالث بانعكاسات هذه العلاقات ومتغيراتها على معادلات السياسة الخارجية الإقليمية والدولية للفاعلين المعنيين بالصراع وبدائلهم التفاوضية، ما يدفع إلى التساؤل حول ماهية تلك المتغيرات ومدى تأثيرها في توازن القوى القائم بين طرفي الصراع، ومستقبل هذا التأثير إن وجد.
أولا: متغيرات إقليمية جديدة:
شهد السياق الإقليمي للأزمة السورية تغيرًا ملحوظًا منذ شهر أغسطس الماضي، وبالتحديد في أعقاب المبادرة الروسية لتفكيك ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية؛ حيث أقنعت موسكو واشنطن بتدمير المخزون الكيماوي السوري كثمن بديل عن توجيه ضربة عسكرية أمريكية لدمشق جراء استخدام السلاح الكيماوي في ضرب الغوطتين الشرقية والغربية، مما كانت له انعكاسات واضحة على المستويين العسكري والسياسي؛ فعلى المستوى العسكري أدى إلغاء الضربة العسكرية الأمريكية إلى تمكين الجيش السوري النظامي من إحراز نجاحات عسكرية متعددة، لا سيما في القصير، وحمص، وريف دمشق، والقلمون، مما ساهم في تبدل موازين القوى العسكرية لصالحه بينه وبين الجيش السوري الحر.
أما على المستوى السياسي فقد خلقت المبادرة الروسية حالة من التفاهم الروسي الأمريكي المشترك بشأن الأزمة نجحت بمقتضاه روسيا في إخراج حليفها السوري بشار الأسد من حالة الإقصاء الكامل من الحل إلى قبول ضمني بمشاركته في مسارات الحل المأمولة، إما عبر تسويقه لواشنطن بأنه الرجل القوي الذي لا بديل عنه لقيادة المرحلة الانتقالية، أو عبر اعتباره حائط الصد أمام الجماعات التكفيرية المتشددة الذي يقف حائلا بين الفوضى والاستقرار، وما يعنيه ذلك بالنسبة لأمن إسرائيل.
أيضًا شهد السياق الإقليمي نفسه اختراقًا سياسيًّا جديدًا تمثل في إبرام الاتفاق النووي الإيراني في نوفمبر الماضي بين القوى الست الكبرى وإيران، وما يمثله ذلك من انفراجة محتملة ومتوقعة في مسار حل الصراع السوري إقليميًّا ودوليًّا، وهو الاتفاق الذي انتزعت فيه طهران اعترافًا دوليًّا بدورها الإقليمي، والتسليم بمصالحها في المنطقة، ما ستكون له انعكاساته على كافة الملفات التي تلعب فيها إيران دورًا محوريًّا في لبنان والعراق وسوريا.
التطورات السابقة على المستويين العسكري والسياسي هيأت الأجواء الدولية والإقليمية لإعادة طرح عقد مؤتمر "جنيف 2" الذي تحدد موعده في 22 يناير القادم، لا سيما أن طهران -وعبر تمريرها لورقتي الكيماوي السوري والنووي الإيراني- نجحت في تهدئة الموقف الدولي المحتقن تجاه الملف السوري. في هذا السياق يمكن القول إن هناك "مستجدات" إقليمية لا يمكن تغييبها عن مسار الأزمة السورية في الوقت الراهن تشير إلى ولادة توازن إقليمي جديد تكون إيران هي رأس حربته، ويعزز من فرص نفوذها في سوريا، الأمر الذي يعني إمكانية "فرض" رؤية إيرانية على مسار الحل المتوقع في "جنيف 2" يأخذ في الحسبان تطورات موازين القوى ميدانيًّا، والتي تميل لصالح النظام السوري منذ معركة القصير في مايو الماضي.
ويبدو أن الرؤية الإيرانية للحل ووفقًا لقراءتها لواقع الصراع السوري الداخلي ستدور حول ضرورة الحفاظ على بشار الأسد، وعلى دوره في المرحلة الانتقالية القادمة، وعلى مؤسسات الدولة السورية من الانهيار، لا سيما المؤسسات الأمنية لاستخدامها في محاربة الجماعات التكفيرية التابعة لتنظيم القاعدة كتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وجبهة النُصرة، وهو الهدف الذي تلاقى فيه الجانب الإيراني مع الرؤية الأمريكية الروسية المشتركة التي باتت ترى أن الأولوية الآن في سوريا أصبحت لمحاربة "التطرف السني" كأولوية تتقدم على أولوية إسقاط النظام السوري "الشيعي"، ما يعني تراجعًا في اهتمام واشنطن بعملية إسقاط بشار الأسد ونظامه، مقابل اعتماد شراكة أمريكية مع إيران تقوم على مواجهة مزدوجة للقاعدة ليس في أفغانستان فقط، ولكن أيضًا في سوريا.
ثانيًا: تغيرات موازين القوى في الصراع الداخلي:
من المفترض أن تُحدث المستجدات الإقليمية والدولية السابق رصدها قدرًا من التأثير في طبيعة توازن القوى الداخلي الموجود بين النظام السوري والمعارضة؛ فقد استعاد الجيش النظامي زمام المبادرة على الأرض، وأعاد التوازن العسكري لصالحه، خاصة بعد معركة القصير التي اعتبرت علامة فارقة في تحول ميزان الصراع الداخلي لما حملته من دلالات استراتيجية أثبتت فشل عمليات التسليح وعمليات الإمداد بالمقاتلين التي قامت بها الدول الداعمة للمعارضة السورية المسلحة في تحقيق النتائج المرجوة ميدانيًّا منذ مايو الماضي وحتى الآن نتيجة سيطرة الجيش بصورة فاعلة على معظم خطوط الإمداد المهمة، ناهيك عن حسابات القوى الكبرى، لا سيما الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي منعت حصول المعارضة المسلحة على أسلحة "نوعية" ثقيلة لتخوفها من استخدام الجماعات الجهادية المتشددة لها ضد إسرائيل مستقبلا، مما حال بين المعارضة وبين استعادة توازن القوى لصالحها، الأمر الذي ساهم في ازدياد قدرة الجيش النظامي على المواجهة ليتحول بعد القصير إلى مرحلة الهجوم التي أسفرت عن نجاحات ميدانية، وهو ما يشير إلى نجاح النظام في خلق بيئة عسكرية ميدانية مخالفة للبيئة التي ترجمت على أساسها التفاعلات الإقليمية والدولية في مؤتمر "جنيف 1" في يونيو الماضي.
في هذا السياق تأتي معركة القلمون الاستراتيجية التي بدأت في منتصف نوفمبر الماضي بضرب بلدة القارة، شريان الحياة للمعارضة، لتزيد من ارتباط تطورات الواقع الميداني بين الجيش السوري النظامي والجيش الحر المعارض وبين المسار السياسي الإقليمي، وتحمل في الوقت نفسه العديد من الدلالات السياسية، خاصة أنه قد سبقها اتجاه الجيش النظامي لتثبيت نجاحاته في القرى المحيطة بدمشق، خاصة الغوطتين الشرقية والغربية، وكذلك المناطق الموجودة بجنوب حلب؛ فالقصير التي استولى عليها الجيش النظامي تمثل خط إمداد هامًّا تقع على الحدود الشمالية الغربية للقلمون التي تعتبر الجبهة الخلفية لدمشق، وقاعدة الإمداد الرئيسية بترسانة القذائف والصواريخ لمناطق دمشق وريفها وحمص وريفها ولبعض المناطق في بادية الشام شرقًا، وتضم القلمون عددًا من البلدات والقرى، أهمها عرسال، والنبك، ويبرود، وتعتبر الأخيرتان مركزًا للمعارضة السورية، ومصنعًا للأسلحة المحلية التي تستخدمها ضد النظام، وقد اعتمدت خطة الجيش النظامي في التعامل مع القلمون على العزل، والتطويق الجزئي المرحلي بهدف قطع حركة الإمداد والتموين للمعارضة في اتجاه حمص شمالا ودمشق جنوبًا.
التقدم الذي أحرزه الجيش السوري النظامي في القصير، ثم في القلمون؛ غيّر من توازن القوى بينه وبين المعارضة المسلحة لصالحه، وبما أن موازين القوى الميدانية تكون سببًا مباشرًا ومهمًّا في طرح المعادلات السياسية الخارجية، لا سيما الإقليمية منها على طاولة المفاوضات؛ فإنه يمكن القول إن تغيرًا واضحًا في المراكز الإقليمية الخاصة بالصراع السوري المسلح قد أفرزته المعركتان؛ القصير وهزيمة المعارضة المسلحة بها في مايو الماضي أدت إلى خروج التأثير القطري من ساحة الصراع السوري لصالح إيران وحزب الله، ومعارك حماة وحلب وريفها وهزيمة الجيش السوري الحر فيها أدى إلى خروج تركيا من مجال التأثير في الصراع الداخلي.
أما القلمون المحاصرة والتي باتت قاب قوسين أو أدنى من سيطرة الجيش السوري النظامي فسيكون وقوعها بمثابة تدمير لخطوط الإمداد والتموين مع لبنان عبر بلدة عرسال، يضاف إلى ذلك إخفاق المعارضة في دخول مدينة العتيبة ذات الأهمية الاستراتيجية والقريبة من مطار دمشق بهدف تخفيف حصار الجيش النظامي على منافذ القلمون، مما ساهم في حصارها من قبل الجيش النظامي قاطعًا بذلك خطوط الاتصال والدعم اللوجستي بين جنوب سوريا المحاذي للحدود الأردنية، وبين بلدة الغوطة الشرقية وباقي الأحياء الجنوبية لمدينة دمشق، ما يعني أن القلمون بنتائجها الاستراتيجية تلك سوف تؤدي إلى خروج التأثير السعودي أيضًا من سوريا.
وتحاول الرياض إعادة السيطرة على قواعد الصراع في القلمون؛ لأنه بإحكام خصمها الجيش السوري النظامي السيطرة على المدينة عبر يبرود يكون قد سيطر كلية على الحدود مع لبنان، بما يعنيه من منع دخول السلاح والمقاتلين إلى وسط سوريا ومناطقها الغربية، وفي حالة تمكنه من السيطرة على جيوب المعارضة في درعا فسيكون بمقدوره السيطرة على الحدود مع الأردن جنوبًا. حينئذ لن يبقى للتأثير السعودي سوى المراهنة على تحول نوعي تحدثه المعارضة العسكرية المسلحة في مواجهة النظام قبل "جنيف 2" بما يحسن من وضعية تفاوضها، وهي مراهنة تكاد تكون نتائجها مستحيلة، وفي سياق ذلك تحاول إيجاد بديل على الأرض السورية يحرز تقدمًا بعد فشل الجيش الحر؛ حيث عملت على تجميع الجماعات السلفية المقاتلة ذات الأيديولوجيات الأكثر تجانسًا معًا لتأليف جيش محمد الذي يضم كتائب أحرار الشام، وكتائب صقور الشام، وجيش الإسلام، بالإضافة إلى مجموعات سلفية أخرى، لتكون بديلا عن الجيش السوري الحر وإخفاقاته.
ثالثًا: مستقبل التغير في توازن القوى في الصراع السوري:
ما سبق يوضح إذن وجود "تغير" فعلي في ميزان القوى العسكري والسياسي بين طرفي الصراع السوري المسلح أزكته تعاطيات الفاعلين الدوليين خلال الشهور الماضية الممتدة من أغسطس وحتى الآن، وبالتحديد كل من السعودية وإيران. فالسعودية وبعد الاخفاقات التي منيت بها المعارضة وميل موازين القوى ميدانيًّا لصالح النظام وبعد الاتفاق النووي الإيراني يمكن القول إنها تلعب معركتها الحاسمة في الصراع السوري المسلح خلال الشهر المتبقي على عقد مؤتمر "جنيف 2"، وهي ترغب فعليًّا في عدم عقد المؤتمر إذا لم تُحدث مساعدتها للمعارضة اختراقًا فعليًّا يحسن من وضعية مفاوضتها فيه، هذا من ناحية. ومن ناحية ثانية تسعى إلى استمرار القتال مخالفة بذلك توجهًا أمريكيًّا أمميًّا يرغب في التوصل لوقف إطلاق النار بين النظام والمعارضة خلال الشهر الجاري، أو حتى هدنة جزئية في مناطق المواجهة الساخنة لخلق أجواء تمكن من عقد المؤتمر، وستسعى السعودية لاستغلال الوقت المحدود قبيل انعقاد المؤتمر في تصعيد أمني استخباراتي على الساحتين السورية واللبنانية؛ حيث تشير أصابع الاتهام إلى تورطها في تفجير السفارة الإيرانية في بيروت نوفمبر الماضي، بهدف الضغط على حزب الله في لبنان لإجباره على سحب قواته من سوريا. ناهيك عن زيادة دفعات الأسلحة من الصواريخ المضادة للدبابات والطائرات وكتائب المقاتلين الذين تم الدفع بهم مؤخرًا إلى الأراضي السورية عبر الحدود الأردنية التي تكثر بها معسكرات المقاتلين المدعومين من السعودية تسليحًا وتدريبًا.
وأخيرًا، يمكن القول إن مستقبل توازن القوى الجديد في الصراع السوري الداخلي يرجح التوصل إلى تسوية مع النظام خلال المرحلة القادمة، تكون إيران هي كلمة السر فيها باعتبارها "الضامنة الإقليمية" لأي تسوية سياسية قادمة، ولأن واشنطن بعد الاتفاق النووي الإيراني باتت تتطلع لرؤية الدور الإيجابي لطهران حيال الأزمة حاليًّا، وبالتحديد حجم التأثير الذي يمكن أن تمارسه على الحليف السوري لحمله على تقديم "تنازلات" ممكنة بعد التلويح بانتفاء فكرة إسقاط الأسد مقابل دور متوقع له في المرحلة الانتقالية القادمة التي سيكون عنوانها الأبرز تشكيل هيئة انتقالية للحكم ذات مهام تنفيذية تعمل على دعم الأمن والاستقرار عبر مواجهة الإرهاب في سوريا، الضمانات الأمريكية المطلوبة من إيران ستكون بالضرورة ضمانات دبلوماسية وأمنية وسياسية، وهي قادرة على تقديمها في سياق الحل السياسي الممكن والمأمول لما تتمتع به من علاقات مع أطراف الأزمة داخليًّا وخارجيًّا.