ملتقيات الشعر في دمشق في ظل الحرب
ملتقيات فنية وشعرية عديدة تشهدها اليوم العاصمة السورية بعد قرابة أربع سنوات عاشتها دمشق على أخبار الموت اليومية؛ فالمدينة التي دخلت غرفة الإنعاش منذ منتصف آذار 2011 أوجد مثقفوها وأدباؤها وفنانوها الشباب فسحةً للشعر والموسيقى والمسرح بعيداً عن بورصة القتل الدائر؛ هاربين من خطابية المراكز الثقافية وأطقم محاضريها الجاهز؛ ومواظبتها على إبادة أي وجود لجمهور تسرب أخيراً من صالاتها الباردة؛ هكذا أسس كل من الشاعر عمر الشيخ والمخرج السينمائي علي عقباني جنباً إلى جنب مع الروائي جورج حاجوج والشاعر معاذ اللحام ملتقى «أضواء المدينة – غاليري نينار – باب شرقي» فمنذ شهر كانون الأول 2013، وإضافة إلى نشاطه الأسبوعي المتواصل من دون انقطاع، يقول الشاعر عمر الشيخ لـ«السفير»: «استطاع الملتقى أن يستقطب أسماء مهمة في الفضاء الشعري السوري مثل (عادل محمود – صقر عليشي)، إضافةً إلى قراءات من أشعار لنزيه أبو عفش وممدوح عدوان وأدونيس ورشا عمران وسواهم؛ والبعض منهم خصّ الملتقى بقراءات شعرية غير منشورة قبل الآن، واستقطب شعراء وشاعرات شباب قرأوا لأول مرة؛ يضاف إلى ذلك أن منبر الملتقى مفتوح وعلى مسافة واحدة من الجميع، حتى ولو كان من يقف خلف المنبر يكتب قصيدته الأولى أو نصه الأول». يضيف الشيخ: «ربما ما يحصل في سوريا، كان أحد أهم أسباب تأسيس ملتقى «أضواء المدينة» الثقافي.. فالكلمة أهم من الرصاصة، والشعر أكثر جدوى من الحرب.. الشعر والأدب يجمعان ولا يفرّقان، هذا ما نؤمن به، ليس في هذا التوقيت بالذات، إنما في العموم، لذلك يبدو التمسك بهذا الإيمان ضرورياً اليوم أكثر من أي وقت مضى؛ كون الشعر خصوصاً، والأدب عموماً، خشبة خلاص».
الملتقى لا يقدم حلولاً للأزمات السياسية والحروب، وهذه ليست مسؤوليته.. برأي «الشيخ» لكنه وبكل تأكيد فضاء يفتح ذراعيه بكل حب ووداعة كي يلتجئ إليه الذين ضجروا من زحمة الحرب والرصاص والموت المتنقل والدم المسفوك مجاناً وهم كُثُر في أية حال».
ثلاثاء شعر
استطاع ملتقى «أضواء المدينة» كفضاء ثقافي وأدبي واجتماعي وبوجود أشقائه الآخرين من ملتقيات الشعر والأدب التي تنتشر في هذه الأيام بمدينة دمشق وريفها، فنجحت هذه التظاهرات في أن تشكل إضافة جديدة للمشهد الأدبي والشعري. ملتـقى «ثلاثاء شعر»، ينظمه دار سرجون للثقافة والفنون والنشر» ويديره الشاعر زيد قطريب الذي يقول عن هذه الفعالية: «كان للملـتقى سـبق في إصدار أول مجموعة شعرية للشعراء الشباب المشاركين فيه، بالإضافة إلى فتح الخطوط مع العديد من الفنون الأخرى كالموسيقى والسينما والمسرح؛ وهذا كله كان ضمن خطة سعت للبحث عن شعرية الفنون وربما شعرية كل شيء، لأن الجمـيع مقتـنع بأن راية الشعر لا بد من أن تخفق رغم كل ما يجري من موت!.». ويتابع قطـريب معـلقاً: «منذ البداية، كان السؤال الأبرز هو كيف نقتفي أثر النص الجديد الذي يُكتب الآن في ظل هذه الأحداث، خارج المنابر التقليدية المعروفة، وخارج إطار الأسماء المكرّسة في المشهد الشعري؟ وكان الجميع متفقين على أن معجماً جديداً يولد اليوم على أيدي الشعراء السوريين الجدد بمخيلتـه الثرة ومـفرداته غير المألوفة وانشغالاته الكبيرة بالاختلاف عن السائد المستقر». اختار القائمون على اسم «ثلاثاء شعر» كرابط معنوي مع دور «خميس شعر» الذي كان له الأثر الهام في اكتشاف النص الحديث في مرحلة من تاريخ القصيدة العربية.. في هذا اللقاء ويضم في معظمه شعراء وكتابا ولا يعتمد نهائيا على الجمهور يقول قطريب: «تمكنا من القاء الضوء على النص الراهن ودفعه إلى الواجهة عبر فقرات اللقاء التي تركز على هذا الجانب الجدلي بشكل رئيسي من خلال فقرة (نص الأسبوع) حيث يقوم الشعراء الشباب بإلقاء القصائد التي كتبوها خلال الأسبوع الفاصل بين كل لقاء والذي يليه. كما تحضر في ثلاثاء الشعر فقرات تحرص على التواصل مع الشعراء السوريين الأوائل الذين كتبوا باللغة الآرامية وتحمل عنوان (نص سوري قديم)، وهناك أيضاً فقرة (ضيف اللقاء) حيث تم استضافة الشاعر محمد عضـيمة عبر خدمـة سكـايب من اليابان في حوار مطول حول تجرته الشعرية، كما استضاف اللقاء الشاعر منذر مصري عبر (الشات)».
ملتقيات عديدة أخرى صعدت إلى واجهة المشهد الثقافي الجديد الذي تعيشه دمشق هذه الأيام؛ كان في مقدمتها ملتقى «يا مال الشام – شعر وخمر» الذي يديره وينظمه المخرج المسرحي أحمد كنعان بعد أن انتقل به من بيروت إلى صالات ومحترفات دمشق القديمة، وعن هذه الفعالية يقول كنعان: «لم أكن أتوقع ان بيروت القريبة، بيروت «سوا ربينا» ستشعرني بكل تلك الغربة وستوقعني في بحيرة استغراب؛ جعلتني أنتقل بـ«يا مال الشام» إلى دمشق فتتالت الأماسي واستضفنا أسماء كثيرة سوريين ولبنانيين منهم «مهدي منصور، فادي ناصر الدين، بانة بيضون، ملاك مكي، زينب مرعي، سمر دياب، وآخرون…». ويتابع كنعان: «عدت الى دمشق فبهرني صمود مثقفيها المهمشين؛ ورغبتهم الجامحة في إعادة الحياة للحارات والبارات والقلوب؛ وفعلاً أطلقت (يا مال الشام) في الشام بالتعاون مع الاصدقاء ومضى بيسر وحب. استضفنا شعراء، منهم: لؤي سلمان، كفاح الخوص، طلال سليم، مرهف زينو، وآخرون، كما اتحنا الفرصة امام اصوات شابة بالمشاركة. وكانت للموسيقى والغناء مساحة في هذا الملتقى؛ ولم يستطع الممثلون الوقوف جانبا، فقدموا فقرات «الستاند أب كوميدي» عن الحرب التي نعيشها اليوم».
استمر «يا مال الشام» حتى اليوم بالتنقل من مكان إلى مكان؛ ملتجئاً من قذائف الموت. يعلق كنعان: «لسنا وحوشا وسنظل نقرأ ما تيسر من الشعر حتى نوقف المذبحة».
مسرح الحكواتي
في جانب آخر استمر المخرج والممثل المسرحي كفاح الخوص بتقديم مسرح الحكواتي في «غاليري زرياب – باب توما» بصحبة فرقة «رمان» التي واظبت هي الأخرى على برنامج واسع من الفقرات الفنية والغنائية عن الحرب السورية، فيما قدمت الشاعرة رولا حسن في إدارة ملتقى «مسا الشعر» في مطعم عثمان بك، دمشق القديمة»، العديد من الأصوات الشابة؛ مشتغلةً على دمج مستمر بين فنون الأداء والموسيقى والكلمة بعد انطلاقتها بملتقى «جرمانا»، ريف دمشق، حيث لم تقتصر هذه الملتقيات على العاصمة، بل تعدتها لتشغل مساحات من الريف الدمشقي الملتهب كما هي الحال مع ملتقى «عناة» في صحـنايا الذي يديره الشاعر والمخرج المسرحي عدنان أزروني، والذي يتحدث عن هذه التجربة فيقول: «أسجّل، منذ البداية، أنّني لا ولن أستطيع النظر إلى «دمشق»، إلا بوصفها كياناً حاضناً للثقافة. ناضجاً بما فيه الكفاية لاحتـواء مختلف الفعاليات، فالملتقيات التي (نبتت) في ظل الحرب، لم تكن (لقيطة) أو طارئة، أو ظاهرة هجينة ودخيلة على دمشق، إنّما هي من صلب نتاجات «دمشق» الأصيلة، إنْ هي سارت في سياقها الطبيعي؛ وتلك عبـارة مفصلية. وأشير، بشكلٍ مباشر أنّ حصر العمل الثقافي ضمن وزارة للثقافة، ومديريات تابعة لها، وبضع مراكـز ثقافـية موزّعة في غـير مكـان على مساحـة الدولة، وربط معـظم إدارات العمل الثقافي بالدولة؛ قد يكون ساهم في انحسار ظاهرة الملتقيات وقلة عددها، بل وأثر، ربما، سلباً في مجمل الحركة الثقافية السورية». ويتابع أزروني: «اليوم، وفي ظل (العَبَث) الّذي يجـري علـى الأرض السّوريّة، كان لا بد، وربّما بشكلٍ عفـوي بدايـةً، من إيجاد معادلٍ حضاريٍّ ما، يعمل في اتّجاهين. الأوّل، الترجمة الحقيقية لنتاجات الإنسان السوري من حيث هو كائن حضاري ذو تاريخٍ عريق، بمقابل كل تلك النتاجات العنفيّة المصدّرة عبر الإعلام يوميّاً. والثاني، التأكيد على التنوّع الثقافي الكبير الّذي يتمتّع به هذا الإنسان».
صحيفة السفير اللبنانية