ممدوح عدوان…
حسناً أنك لم تعد بيننا
“بدون الصخور… لا يمكن للموج أن يصعد عالياً”
_________________________________________
هذه رسالة قديمة (10 سنوات) إلى ممدوح عدوان، أعيد نشرها في مناسبة الذكرى العاشره لوفاته.
………………………..
” في كتابك الأول، أصدرت، في القصيدة، صوت نقّار الخشب على باب من تحبّ. كان الصوت خفيفاً. كنت تحاذر أن تستيقظ من تريدها أن تكون هانئة في غفوتها “على كثير ثم لا ترى أحداً”… وبعد سنوات قرعت بابها في قوة حانقة فلم تستيقظ… الأمّه !
كنت ضئيلاً كأنما لا ينبغي أن نمتدح الآن رشاقة الفقر. ضحوكاً دائماً وتتأمل، من بين أسنان الآخرين، ما تبقّى من أغان “على الريق”. ولم يكن حينذاك، في ليالي مدينتنا، ما يوحي بأن مشروع الكارثة الوطنية هو ريفيٌ إلى هذا الحد، ومصنوع من أغاني العمل… وعتابا الرغبة في تحرير فلسطين.
كنا معاً، جميعاً، نقرأ عناوين الحضارات، ولا نغوص في الوحل الذي شكّل طمي الكتابة على الجدران. كنّا نقرأ عن ستالينغراد فنمجّد بطولتها، وننسى كيف بنى أهلها متاريسهم، وكيف ربّوا، وراء أكياس الرمل، دجاجة وبيضة للأمل.
مرّ وقت طويل وأنت تكتب وتترجم كتباً، وتبني مسرحيات وأعشاشاً لذوق الذاكرة.
مرّ وقت طويل وأنت تخمّر، في ورشة العمل اليومي ، حروفاً. وفي الليل تقطّر من عنب الحروف نبيذاً ، ثم يأتي إليك الأصدقاء فتقرأ عليهم مسودة السيف الذي لم يحارب ، وقصيدة تسأل عن تناحر اسمين للمدينة الأسيرة الملتبسة: “هل اسمك القدس أم أورشليم؟” ثم تباهي منافسيك بأن كل شيء سياسة… حتى الخليل بن أحمد الفراهيدي اهتدى صدفة مقصودة إلى النحاس وهو يقرع أوزان الشعر العربي الخالدة.
مرّ وقت طويل وأنت تحاول أن تزيل عن طلسمنا الغبار: كيف يمكن أن تكون مزرياً وأنت غني؟ كيف يمكن أن تكون متأخراً والريح تملأ في بحرك الأشرعة؟ كيف يمكن أن يصبح العربي غريباً كلما حاول أن يعرّف وطنه؟
تساءلت ، وقد مرّ وقت طويل ، بعد موت الكثيرين ، وخيبات الكثيرين ، بعد الحروب الأهلية. بعد الحروب الإقليمية… بعد أن أصبح في ذمتك خمسون كتاباً ،تساءلت: ما الذي فعلناه؟ فأقول لك في لحظة الحقيقة الحزينة:
“أهم إنجازاتنا…التقدم في السن” .
وظللت انت ممعنا في السؤال، حين كان الآخرون يعتقدون باكتمال الأجوبة.
وهكذا بدأت ، ربما بدأت بإخلاصك الذهبي ، تتأمل تفاصيلك. كأنما لم تكن أعضاء الجسد ، فيما مضى ، كريمة إلى حد العناية بمتروكها المهمل. وأن نقول لها قولاً كريماً خافضين جناحاً واحداً ونستغفرها عن ذنب التهرب من التفاهة المنعشة، والسخافة اللذيذة… والرهافة من غير هدف.
ربما
أحياناً لأننا أخذنا كل شيء على أنه بناء أهرامات دون هوان الإحساس بالسخرة والألم: نبني لنفخر لا لنسكن. و…نلد لسوق البطالة والموت!!
الجمال يلطأ في مكان ما، ربما كما تفعل البنفسجة تحت الحجر:
لقد اهتدى الراعي إليها عندما رأى الشمس بجلالها وقدرها تزورها في صباح مبكرّ… بينما الإنسان يرعى ماعزاً في الجليل ولا يحلم بالأزرق تحت حجر.
الجمال…
ربما يحتاج إلى الوقت الذي يملكه أمير دانمركي في أيامنا، وليس ذاك الذي خرج شاهراً ألمه العظيم مسمماً بالدهشة والغدر في مسرحيات شكسبير الخالدة. الوقت الذي منتصفه لحظة ندم على أوله ولحظة رثاء لآخره.. ذلك لأننا لم نر الذي كان ينبغي أن نراه:
“إن الظلال للعين. وظلال الظلال للبصيرة خلفها “
الكتابة هي مهنة الهواية. آتية من ضواحي المدينة الفاضلة. ولكنها ذاهبة إلى ذاكرة. ذاهبة ، من طريق فرعي كريم ، إلى النسيان.
الكتابة تجعلك مألوفاً لدى الآخرين. وهي التي خلقت حباً بين غرباء، وصواباً من خطّائين ، وأملاً عندما تموت العجول في حقل شوفان تأكله النيران.
ولكن الكتابة، وهي تمر على مناطق الوباء، تزرع في الصدر فجيعتها. المناطق التي مر عليها المطر. ومرّ عليها العمر، ومرّت عليها قوافل السجناء. وقوافل الغائبين، وقوافل بلا أحد…
الكتابة سوف تثأر من اللغة.
الكتابة هي أخيراً من جعلت كل شاعر عاجزاً عن…إلقاء قصيدته الأخيرة. والكتابة ربما كانت ندم الكاتب على… ما لم يكتب بعد .
هكذا…
يتقدم وحش الزمن ، لكي نسمع في غفلة ، صوت عظام الفراشة ، تطلب منا غوثاً مستحيلاً…
فـ” الناس نيام إذا ماتوا…انتبهوا”