مناورة اقتحام الجليل: الكابوس يتحقّق
لا يمكن العدو الإسرائيلي أن يتجاوز الرسائل الكامنة في مناورة حزب الله أمس، في المضمون والسياق والتوقيت. والمؤكد أنها ستحظى باهتمام المؤسسات المهنية ذات الصلة، تحليلاً واستشرافاً، كما هي الحال في كل محطة للمقاومة في لبنان وفلسطين. في هذا الإطار، أتت دعوة القناة 12 في التلفزيون الإسرائيلي إلى عدم الاستخفاف بهذا الحدث، في إشارة إلى ضرورة استيعاب مؤشراته. ومما يُعزِّز دوافع هذا الاهتمام أيضاً رسائل مضمون المناورة التي تلاقت مع مواقف حاسمة أطلقها رئيس المجلس التنفيذي لحزب الله السيد هاشم صفي الدين.
مع ذلك، ينبغي التمييز بين اهتمام المؤسسات الاستخبارية والعسكرية والسياسية التي لم يصدر عنها أي تعليق، وما يصدر في وسائل الإعلام الإسرائيلية مما قد يكون انعكاساً لما يدور في أروقة التقدير والقرار أو مجرد قراءات ذاتية تبقى بالإجمال مضبوطة بسقوف المؤسسة الرسمية. ولكن، بعد ساعات من المناورة، يمكن إجمال بعض موارد الاهتمام الإسرائيلي بهذا الحدث، بتركيز بعضها على خلفية إجرائها أمام مختلف وسائل الإعلام المحلية والعالمية، والقدرات التي قرّر الحزب الكشف عنها وتهتم الاستخبارات العسكرية برصدها، وأيضاً في تمحور المناورة، بشكل رئيسي، حول عينة من استراتيجية اقتحام الجليل وأسر جنود والسيطرة على مستوطنات.
بعض المعلقين ووسائل الإعلام ربط بين المناورة والعدوان الأخير ضد الجهاد الإسلامي في غزة. إلا أنها، وإن كانت تشمل هذه المواجهة وما سبقها، تتجاوز في أبعادها ورسائلها إلى ما هو أبعد مدى وأوسع نطاقاً وأشد خطورة في ضوء التحولات التي تشهدها المنطقة. أضف أنه وفق منظور المؤسسة الرسمية الإسرائيلية، سياسياً واستخبارياً، وبغضّ النظر عما إذا كان سيتم التعبير عن ذلك لاحقاً أم لا، تشكّل المناورة محطة في سياق، لها اتصال بما قبلها وبما بعدها.
في المضمون، أبلغ الرسائل التي ستدوّي في كيان العدو أن حزب الله تعمد أن تحاكي المناورة سيناريو اقتحام مستوطنة وأسر جنود، وليس، مثلاً، التصدي لمواجهة قوة كوماندوس إسرائيلية أو لاعتداء إسرائيلي، ما يعني في ما يعنيه أن خيار اقتحام الجليل يندرج عملياتياً ضمن أولويات سلة الردود على أي عدوان. وهذا أمر، وإن كان حاضراً مسبقاً لدى قيادة العدو، لا يمكن أن يقرأه العدو في سياق منفصل عن التطورات التي تشهدها فلسطين والمنطقة.
لذلك، مما سيشغل الأجهزة الإسرائيلية محاولة معرفة التقدير الذي انطلق منه حزب الله في قرار إجراء المناورة، وما إن كان ينبع من معلومات أو تقديرات لديه حول حماقات قد ترتكبها إسرائيل، أم أنه يرى أن مسار التطورات في المنطقة قد يدفع العدو في هذا الاتجاه، أم هو خطوة تمهيدية لخطوات لاحقة، خصوصاً أن «التوقيت حساس للغاية على مستوى المنطقة» كما لفت إلى ذلك موقع I24news الإسرائيلي.
من الرسائل التي حضرت لدى بعض المعلقين أيضاً أن المناورة تتكامل مع مفهوم وحدة الساحات، وهو أمر أكد عليه السيد صفي الدين عندما شدد على أن «مقاومة اليوم هي قوة ممتدّة ومحورٌ كامل سيبقى يتطور من غزة والضفة والداخل المحتل ولبنان انطلاقاً من الجمهورية الإسلامية في إيران»، معتبراً أنَّ «ما يعمل عليه العدو للتفكيك بين جبهات المقاومة خيالي». ولا يخفى أن هذا السيناريو هو الأخطر على كيان العدو، ويشكل تطوراً نوعياً في المسار التصاعدي لمحور المقاومة. وقد فرض نفسه على مؤسسات القرار وشكّل الكابوس الأخطر على الجيش الذي أعلن رئيس أركانه هرتسي هليفي أنه سيطور قدراته وجاهزيته وفقاً لفرضية المواجهة على جبهات متعددة.
وليس بعيداً عما يدور في أروقة القرار والتقدير، أتت قراءة محللة الشؤون الأمنية والعسكرية في قناة «مكان» الإسرائيلية، إيال عليما، التي اعتبرت أن الخطير في المناورة هو الرسائل التي تبثها، كونها حاكت عملية تسلل إلى الجانب الإسرائيلي من الحدود. ورأت أن «النغمة التي نسمعها تدل على جرأة حزب الله بالمبادرة إلى مخاطر مدروسة». واستحضرت في هذا السياق عملية مجدو وإطلاق الصواريخ من لبنان وإطلاق مسيرات نحو منصات الغاز قبل أشهر.
اللافت في المناورة أيضاً أن حزب الله قدم إجابات على مجموعة من الأسئلة الجوهرية حول أهدافها، بإطلاق مواقف دقيقة وحازمة. إذ جدّد رئيس المجلس التنفيذي لحزب الله ملامح الرد على أي محاولة من قبل العدو لتعديل المعادلات بالقول «إذا ارتكب العدو حماقة وتجاوز قواعد اللعبة سنمطر هذا الكيان بصواريخنا الدقيقة وبكافة أسلحتنا التي نملكها، والعدو سيرى فعل الصواريخ الدقيقة في قلب كيانه»، وبما «لا تستطيعون رده وستشهدون أياماً سوداء لم تروا مثلها». ويؤشر هذا الموقف إلى أن مدى رد حزب الله سيتجاوز أي سقوف قد يتوهمها العدو انطلاقاً من تقديرات خاطئة. ومن المؤكد أن العدو سيلتفت أيضاً إلى دلالة كون الكلمة مكتوبة، ما يعني أن كل حرف فيها أتى بناء على قرار، وأنها تعبّر عن التوجه الرسمي لحزب الله.
وليس من المبالغة القول إن من المعطيات التي ستحضر لدى الأجهزة المختصة هو تعهد حزب الله بـ«إمطار» الداخل الإسرائيلي بالصواريخ الدقيقة التي لم يعد العدو يتحدث عن تقديراته إزاء الأعداد المتوافر منها لدى حزب الله، ما يُشير إلى أنه أدرك خطأ تقديراته ومعلوماته، وبأن حزب الله أصبح في الموقع الذي يمكنه من خوض مواجهة كبرى استناداً إلى ما يملكه منها ومن غيرها من المفاجآت.
في الأبعاد الداخلية اللبنانية، مع أن حزب الله حرص على طمأنة الداخل على لسان السيد صفي الدين، انطلاقاً من أن المقاومة هي قوة لحماية لبنان، إلا أن الرسالة والمؤشر الداخلي الأهم بالنسبة لكيان العدو، أن هذه المناورة تجسد فشل الرهان على متغيرات الداخل اللبناني التي كان سقفها الأعلى تخلي بيئة المقاومة عنها، وسقفها الأدنى أن يتحول الداخل اللبناني، ببعديه السياسي والاقتصادي، إلى قيد على حركة حزب الله في المبادرة والرد على اعتداءات العدو.
صحيفة الأخبار اللبنانية